ثقافة وفنون

اعتراف متأخر

اعتراف متأخر

جمال العتّابي

في شوارع المدينة الترابية كنتَ تتسكع، متحسراً على أيام الدفء التي مضت، تبحثُ عن مأوى، على ضفاف الساقية تتسكع، غير مكترث لواجبك المدرسي، تفضّل متابعة الكرة في ملعب فريق الجمعية. عند نواصي الأزقة تتمهل، تتلفت حولك، لا يأبه بك أحد، لديك شعور غامض بأنك مرفوض ومنبوذ في هذه المدينة. تجرجر أذيال الخيبة في الشوارع وحدك، ما وقع، وقع، جئنا في الزمان الخطأ، بعزلتك تلوذ، وتتشبث، هي مفروضة عليك، تزوّدك بيقظة تشحذ حواسك…تتسلل مثل قط هزيل لوى ذيله بين ساقيه الخلفيتين تحت وابل المطر، ملتصقاً بحوائط محرومة إلى مقهى « نعيس». ينتابك يأس من عدم القدرة على التآلف رافقك منذ الصبا.
عندما تتهيأ للرحيل إلى» إيثاكا» تمنَّ أن يكون الطريق طويلاً
الشاعر «قسطنطين كفافيس» في قصيدته الشهيرة «المدينة» يقول:
أينما نظرت حولي بلمعان، رأيت خرائب سوداء من حياتي
حيث العديد من السنين قضيت وهدمت وبددت
لن تجد بلاداً ولا بحوراً أخرى فسوف تلاحقك المدينة
سَتَهيمُ في الشوارع نفسها وستدركك الشيخوخة
في هذه الأحياء نفسها وفي البيوت ذاتها
سيدبّ الشيب إلى رأسك وستصل دوماً إلى هذه المدينة
لا تأمل في بقاع أخرى، ما من سفين من أجلك، وما من سبيل، ما دمت قد خربت حياتك هنا،
في هذا الركن الصغير، فهي خراب أينما حللت.
تلك المدينة ستظل تتعقبه وتطارده، فهي تسكنه وتحاصره، مصير أهلها كمصير أهل طروادة المحاصرة، هم يعيشون سطوتها حتى الثمالة، وهم مجبولون على البقاء فيها، إنها الملجأ والغواية والفتنة والحياة، رغم ما ينتابها من أعراض الخراب.
أسالك ما الذي عاد بكَ إلى مدينتنا القديمة، عن عزيز فقدته تبحث، وجئت تخدع نفسك، إنك هنا ستجده؟ عن عرّاف، تنتظر أن ينطق بنبوءة؟ أم جئت هرباً من ثأر تخشى أن يوقع عليك؟ ما الذي جئت حقاً من أجله إلى مدينتنا، يا من أمضيت سنوات عمرك في جبهات الحروب؟ عمّا جئت، غداة الهزيمة، تبحث؟
(صفير قطار يسمع من بعيد)
جئت باحثاً عن علّة وجودي.. جئت للتحري عن جريمة ظلت غامضة، عن قاتل خنق الربيع في صدر أخي، يقولون إن القاتل سيرتكب جريمة من جديد. كانوا قد غرسوا بالنصال على شفة الورد، جئت لأغيث وما من مغيث لصرخاتهم سوى الموت، يجثم فوق صدور الأجنّة، يسرق أعمارهم. هل نحن إلا بلاد من الموت والخوف والنزوة القاتلة؟
***
في ظهيرة ساخنة وضعتَ يديكَ في جيب سروالك العتيق، ورفعتَ ياقة قميصك الأبيض، تمشي الهوينا حتى يهدأ بالك، تسكّعت في الأحياء التي تعرف أزقتها وأهلها.
مضيتُ وأنا أنصت إلى وقع حذائك على بلاط دكّة الباب التي غسلتها أختك الكبيرة، وأضحت عند قدميك تبرق مثل نجوم السماء تتألق، كنت أتربص بك وفي داخلي عذاب استبد بروحي، لأنك لم تصدق معي، كنتُ تعلمتُ منكَ في سنوات لاحقة: يخضع المرء في حياته لسلطات ثلاث، الأولى سلطة الأب، ثم سلطة الأخ، وأخيراً سلطة الابن، حين تلفحك الشيخوخة، وتفقد العيون بهاءها، وإياك.. إياك من سلطة الأخ! فانه والله يتوعدك! من أين لك هذه الحكمة؟ كنت جاداً معك في السؤال، وأنا متيقن من أنك كنت الصحيح بيننا، لأنك فهمت اللعبة مبكراً.
ألقيت بنفسك إلى الشارع، رحت تتلوى وتصرخ بين يديّ، وأنا المتباهي ببأسي، كم أشعر بالندم، كنتُ قاسياً شديد القسوة معك، أطلبُ المغفرة منك، أتوسل إليك اغفر لي.
****
صممت على الفرار من ساحة الذبح نحو أقاص بعيدة، قلت لك: طف بأي سماء، دعوه كما يشتهي، كان قد رفض الانصياع لمغريات الحزب الحاكم، حاصروه بالانتماء، والتهديد صار اللغة المفضلة:
ـ أستاذ (….) عليك أن تدرك جيداً أن المعلّم أداة للحزب والثورة، لا نسمح للعناصر غير المؤمنة بالمسيرة أن تتسلل إلى حقل التعليم! هذه استمارة انتساب، مطلوب منك أن توقّع عليها بالقبول!
بسخريته المعهودة أجاب المسؤول:
ـ أخي: آني لحزب أبوي اليساري ما انتميت! هالمرّة ويّاكم؟ ثم أردف بحزم:
ـ وإياك أن تكرر معي هذا الطلب مرة أخرى.
لقد حسمتَ الأمر مع نفسك، ها هم يغرزون عنوة في لحمك الأبر، ها هو قدرك والمدينة ترزح تحت وطأة البرابرة.
ـ عليك أن توطن نفسك لـ(البسطال) قال له أبوه.
كيف يا أبتي؟ يتساءل مع نفسه، أن أستسلم لهذا المصير، وفي أعماقي دماء المغامرة ما زالت متأججة بوجداني وعقلي.
ـ ليتني أفهم معنى صمتك اللغز الذي حيرني، غامض أنت فدعني أنتقي من شجر الحكمة ما يلهمني، لا خيالي أدرك السر، ولا الصدى أيقظ فيّ الروح،
رحت أمشي إلى حتفي والمصير، على الجمر أحصد ما خبأته لي العصور ، وما أرّخته المقادير… مهما تعبنا ومهما أرقنا، حكايتنا أننا في النزالات الأبدية لا نطرح الأسئلة ولا نغامر بالجرح، أو نصعد إلى المقصلة.
عدتَ تجرجرَ خطواتك، تجلسُ على تخوت مقهى «نعيس» الخشبية، بين المناضد الخاوية رحت ترشف شايك الساخن، وترنو إلى الأفق، دخلتَ أشعث الشعر، ممزق الحذاء، تخرج من بين أوراقك الصفراء المتآكلة الحواف، قصاصة يتردد صداها وأنت في المكان الخاوي:
حذار. لا تصدق، بعد سنوات ستذكرني، ترى من أين جئت، وإلى أين عدت؟
همهمات
أناس غير مكترثين بأنك عشت وطراً من حياتك هنا، تكتظ بهم الأرصفة، لا يعنيهم شيء من أحلامك، ولا شظايا روحك المبعثرة. تقلّب فيمن حولك النظر، لم تجده مرة أخرى، ذلك الوجه الشاحب والنظرات الخفيضة، ما ضاع، ضاع، لا وقت للحسرة. ألم تدرك بعد أن هذه المدينة لفظتك منذ زمن بعيد، ودّعها، ودّعها أنها في البحر تغوص، ومن أمامك تنمحي.. كانت لي ذات يوم، لي أنا وحدي، أو هكذا أوهمتني.. كفّ عن البكاء. فالعشّاق الموتى يتكاثرون.
صفير قطار بعيد يتعالى على أهبة الرحيل.

كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب