
انكسار الحكاية السورية في رواية «منازل الأمس»

ملاك أشرف
يتقن الروائي السوري سومر شحادة فن بدء الرواية، حيث يفتتح أعماله بأسلوب لافت، جذاب، وشاعري، في روايته «منازل الأمس»، يبدأ سليم باعترافٍ دقيق يخص نسرين، ويستمر في سردٍ حزين قائلاً: «عليك أن تترك للمرأة التي تحبها الحرية في الاختيار حتى لو قررت أن تبتعدَ عنك، وأعزي نفسي بخسارتي لنسرين بأنها من النساء اللواتي ليس بوسع المرء إلا أن يخسرهن». بعد أن وصفها بأنها امرأة استثنائية لا يمكن مقاومتها، ذات ملامح وتفاصيل فرنسية ناعمة، تحذر من لمسها كي لا تتكسر، فهي تنتمي إلى عالم يصعب تصوره. ومن يعيش بمفرده يتمنى أن يصبح ملاكها الحارس، على الرغم من أنها تميل أحياناً إلى الاختفاء بين الناس وتفضل العزلة. كانت نسرين رقيقة للغاية، تتمتع بحساسية عالية، وكان لجسدها لُغة خاصة تعكس ثقافتها ومهارتها في الحفاظ على جمالها الدائم.
ومن هنا، ارتبطت نسرين بسوريا، التي يكن لها الراوي حُباً مُغرياً، ويسترجع كُل ما عاشته هناك من أيام وأشخاص، وذكريات سنوات رائعة. وبينما تتداخل هذه القصص الرومانسية مع الواقع المعقد للبلد، والغربة التقليدية التي تلازم المرء الشاعري وأيامه الأولى الضبابية، يقول شحادة على لسان سليم: «عندما يرتاح المرء في حياته المادية وينجح في تكوين شبكة أمانه الاجتماعي، تبدأ المشكلات التي كانت مؤجلة بسبب شروط العمل والحاجة إلى تحسين ظروف الحياة بالظهور على نحو ملح. وهكذا، وما إن بنينا حياتنا حتى شرعنا في هدمها».
من بين القصص التي عاشها بطل الرواية سليم، تبرز حكايته مع نسرين، التي تركت في قلبه أثراً عميقاً. فقد أصبحت هذه القصة جزءاً من مصيره، حتى إنه لم يعد يعرف كيف يواجه حزن غياب المرأة التي أحبها. لاسيما وأنه يفتقر إلى الشجاعة/ الجسارة التي كانت لدى نسرين، تلك الشجاعة التي جعلتها قادرة على تحطيم أو تغيير حياتها.
بقي سليم الذي يتسم بالوداعة يواجه الموت بعد سفر ابنته نسرين؛ لأنه قرر منذ البداية ألا يتخلى عن سوريا، ويظل فيها من دون أن يهاجر كما فعل الآخرون. وكان مثل هؤلاء المخلصين لأوطانهم هم مَن يعلمون قيم الحُب والوفاء. ولكن الذكريات تهدد نمط حياة الإنسان، لذلك لم تجد نسرين حتى بعد مُغادرتها، الراحة فقد عانت نوعين من الاغتراب: الأول عندما تركتها والدتها بائعة الهوى، والثاني عند رحيلها عن وطنها. لذا تعلمت ألا تهب العاطفة بسهولة، ومتى وهبتها فإنها تتحكم بحياتها. نلحظ أن نسرين مع كُل ما مرت به فهي في حالٍ من التصالح مع ذاتها الجريحة، تتحدث عن نزعتها الهادئة – وكأنها بحيرة مهجورة – قائلةً: «كنت امرأة متصالحة مع نفسها تكتشف العالم الجديد، وتتعلم أنماط عيش الآخرين بمحاكاة صامتة. كنت مدركة أنني وافدة جديدة، وأن الآخرين متفوقون عليّ بسبب قدمهم. وبهذا طردت من قلبي المشاعر السلبية التي قد تأتي من المقارنة» وهكذا، كانت كُل مدينة تقودها إلى أخرى، واستمرت في البحث عن أشخاص يشبهونها في مدنٍ وأماكن بعيدة. ومع مرور الوقت، أدركت أن الرحلة قد غيرتها، وأصبحت لا ترغب في لقاء أحد يشبهها: «ومع نسرين جاءت الطيور واستوطنت ماخوس، وصارت تطير فوق البحيرة، أما عندما ينزل الليل فكانت تأوي إلى أعشاشها». وبانتهاء أحلامها لم تكن تتخيل أنها ستعود إلى منزلها القديم بموت سليم، الذي كان يختتم الحكايات بطائر يتعاطف معها.
أمضى سليم حياته عالقاً في لحظات قديمة مهما تتالت الأزمنة وتغيرت الأمكنة مع ناسها، ظل منفتحاً وعطوفاً وعذباً بشكلٍ مُحير، فضلًا عن أنه وحيد وكان حينما يحرك يديه في أثناء الكلام ينشر نغماً في وقت البارود والدم. ويدرك أن لا عزاء يحمله الزمن أمام الخسارات، التي لا يربح المرء بعدها شيئاً، وفي حضور الأوهام. ليس أجمل وأصعب من أن يتحرر المرء من الأوهام، ولو أن لكُل شخص أوهامه التي يقدسها.
لم تكن نسرين سعيدة في حياتها، كانت تشعر بأن في داخلها قسماً مبتوراً ولم تكن تستطيع التوقف عن التفكير فيه، خاصة أنها نشأت وسط علاقات تضمر أكثر مما تظهر، علاقات مشحونة بالغرابة والعداء؛ لهذا السبب، كانت ترغب بشدة في إبقاء الآخرين بعيدين عنها، إذ انقضت سنوات من عُمرها في متاهةٍ إماراتية خاطئة. تمكن شحادة من جعل الرواية متماسكة ومؤثرة، حتى بعد إشارته إلى وفاة الأب سليم وعودة ابنته بعد سنوات من العيش في غربة خانقة وبعيدة، وهو ما عبرت عنه نسرين في قولها: «كُل شيء كان يمضي على عجلة من أمره، كُل شيء طارئ ومؤقت وعابر، البشر والسيارات والأفكار. كل شيء مستهلك ومستنزف، العلاقات والعمل والصداقات. كان الناس متعبين ومتطلبين. ولم تكن لديّ القدرة على احتمالهم.. كُتب عليّ أن أخفف عن الجميع وما من أحد اكترث لأن ينصت إلى مخاوفي العميقة من العيش. أنا أيضاً توقفت لسنوات عن الإنصات إلى مخاوفي». تجرعت نسرين الألم مرتين كما اختبرت الغربة مرتين، حين تركت والدها المُحب ورحلت إلى خارج الوطن الأم، وحين تهاوى زواجها في الخارج، لأن الغواية أكثر مُتعةً من الحُب والغموض أكثر لذةً من الانكشاف. وهو ما نجح شحادة في نقلهِ بمشاهد حيوية وبأساليب فنية بارعة، وإن كانت مألوفة للجميع نوعاً ما؛ ذلك لأن الناس الذين يعرفون الألم ساحرون، ويمكن للفرد أن يلجأ إليهم في أي وقت، وأعتقد أن في داخل الإنسان يوجد كُل شيء. والآخر يضيء من الإنسان جوانب ويغفل عن أخرى، بل يضيء تحديداً الجوانب التي تشبهه على حد قول المؤلف.
فكرة الرواية المركزية هي أن عالم نسرين الحقيقي هو العالم القديم في اللاذقية، عالم أبيها وطفولتها، وكانت من أولئك الذين يحبون أن يعيشوا في الماضي، وفي النهاية لم يكن لها مكان في مدينة المستقبل، مدينة العالم الجديد. ولم تتح لأحد أن يخبرها عن السنوات التي تضيع من الإنسان قبل أن يتعلم ألا يلتفت إلى الخلف، وأن الأشياء المؤلمة التي تصنعنا هي التي تمنحنا المعنى. لكنها كانت غارقة في ماضيها الخاص ومن غير رحمة؛ فحاول شحادة أن ينقل لنا كيف يمكن للإنسان أن يغرق في ماضيه إلى الأبد. تمثل رمزية منازل الأمس العودة إلى الماضي، والذكريات التي تحمل في طياتها مشاعر من الحنين والألم والاشتياق.
هذه الرواية هي قصة عاطفية قوية تركز على الحُب المفقود، لكنها لم تشرق بالأمل حتى مع قدوم فصل جديد من الحُب لهذه الشخصيات. وتُقر بجرأة أن الإنسان في النهاية يعود إلى مدينته التي يشتاق إليها؛ لا بُد للمرء من العودة إلى جذوره وكُل ما يعشقه، مهما طال الزمن؛ وعليه انكسرت الحكاية الرومانسية السورية في النهاية؛ نتيجة التحديات والتغيرات التي أثرت في شخصياتها؛ ما أدى إلى تحطم الرومانسية أو تحولها إلى واقعٍ قاسٍ بعيداً عن الأحلام والطموحات العاطفية، حققت الرواية غايتها عن طريق سردها الرفيع وتعالقه بالماضي العتيق: «أحدنا يخطو إلى الغد والآخر يرجع إلى منزل الأمس»، أي هناك صلة قوية بين الأحداث والأماكن. بحيث أثارت «منازل الأمس» فضولنا وحُب اكتشاف الوقائع؛ كما أنها أثارت فينا بعض الانفعالات الحادة، كالتوقع والقلق وما شابه ذلك ضمن سياقٍ مُترابط. إذن لا تقتصر الحبكة على كونها مجرد إطار بدائي يحيط بالشخصيات فقط، بل إن الشخصيات نفسها تشكل جزءاً رئيسياً من آلية الحبكة. فصفات الشخصيات تؤثر في مجرى الأحداث، بينما تسهم الأحداث بدورها في تطور الشخصيات من خلال التوترات، المشكلات والظروف المُغايرة.
وكان لا بُد للروائي أن يقدم لنا مثل هذه الحياة المختلفة؛ لأن الحياة تعطينا الرواية، القائمة على إدراك رؤية فلسفية جديدة، فكما يقول إدوين موير: الشيء الوحيد الذي يستطيع أن يحدثنا عن الرواية هو الرواية..
هامش:
• كُل الاقتباسات الواردة في المقالة تعود إلى الرواية ذاتها.
• سومر شحادة: روائي وصحافي سوري، حصل على جائزة الطيب صالح العالمية للإبداع الكتابي عام 2016 عن روايته الأولى «حقول الذرة»، بينما حصلت روايته الثانية «الهجران» على جائزة نجيب محفوظ للرواية العربية في عام 2021. كما وصلت روايته الأخيرة «الآن بدأت حياتي» إلى القائمة الطويلة لجائزة الرواية العربية (بوكر) في عام 2025.
كاتبة عراقية