ذكرى الحرب اللبنانية: وضع النقاط على الحروف

ذكرى الحرب اللبنانية: وضع النقاط على الحروف
لقد هالنا في ما قرأناه وسمعناه ممن تحدث عن الذكرى الخمسين لباص عين الرمانة. إن الفريق المعتدي والذي ارتبط بشكل أو بآخر بالعدو الصهيوني، أي المؤامرة الكبرى، يتفاخر بما فعل وينسب نفسه للمقاومة والصمود ، فيما الذين انخرطوا مع المقاومة الفلسطينية بما تحمل من مبادئ ومُثل عليا، بغض النظر عن الأخطاء والانحرافات، يقدمون الاعتذار ويتنصلون من الاشتراك في الحرب اللبنانية وكأنهم هم المذنبون والمجرمون والمتسببون بالحرب اللبنانية.
ولا بد من وقفة نوضح من خلالها بعض الأمور ونضع النقاط على الحروف فنقول:
أولاً: جذور الحرب اللبنانية عميقة في التاريخ يعود أولها إلى هجرة الموارنة من حلب وحمص وحماة إلى الجبال اللبنانية فراراً من الحكم الإسلامي الجديد. وكان هذا في العام 50 هجرية – 670 ميلادي. ونراجع هنا ما كتبه المؤرخ (كمال الصليبي) عن هذه الحقبة.
ولقد أثبت الإسلام أنه حافظ عليهم عندما أفتى الإمام الأوزاعي بذلك الموقف الشهير الذي حقن فيه دماء «الجراجمة»، عندما همّ الوالي العباسي (صالح بن علي) بالقيام بحملة عارمة تستهدف استئصالهم، بعدما قام البعض بشن الهجوم على الجيش الإسلامي. فأرسل رسالة له خاطبه بلهجة حاسمة: ليس لك أن تأخذ عامتهم بذنوب خاصتهم، والله يقول (ولا تزر وازرة وزر أخرى). وامتثل الوالي لفتوى الإمام الاوزاعي، وأسس هذا الموقف المميز لجذور الكيان اللبناني، وهذا ما كان يُدرّس في المدارس الابتدائية، وحفظنا ذلك منذ الصغر.
والمرة الثانية، التى حمى فيها «الإسلام» الوجود المسيحي، هو إثر مجازر 1860، حيث قام الأمير عبد القادر الجزائري بحماية المسيحيين في بيروت ودمشق، واستنفر بسلاحه مع أنصاره للوقوف في وجه المعتدين على المسيحيين.
لنؤكد من خلال هاتين الحادثتين الشهيرتين، بأن الإسلام كتراث وكثقافة والتزام يؤكد على العيش المشترك وليس العكس.
-
أرشيف الحرب اللبنانية 1975 – 1990 (أ ف ب)
ثانياً: لا شك أن الجهات التي حكمت باسم الإسلام جميعاً، الأمويون ثم العباسيون، فالأيوبيون والمماليك ثم العثمانيون، ارتكبوا أخطاء كثيرة مع الجميع، ولكن الخطأ مع المسيحيين تتم قراءته بخلفية طائفية. ولولا هذه الأخطاء التي نُسبت للإسلام، لكان موضوع العيش المشترك أفضل بكثير.
ثالثاً: إن جذور الحرب اللبنانية زرعها الأجنبي من خلال نظام القائمقاميتين عام 1840، ثم نظام المتصرفية عام 1860، ثم من خلال إعلان دولة لبنان الكبير. حيث حظي المسيحيون وخاصة الموارنة بكثير من الامتيازات تحولت إلى عقدتين لخصت بهما الأوضاع عشية الحرب اللبنانية:
عقدة الخوف لدى المسيحيين، وعقدة الغبن لدى المسلمين، بحيث أن المسيحيين يخافون من إمكانية ذوبانهم في هذا البحر من المسلمين، فيما أن المسلمين يشعرون بانتقاص حقيقي من حقوقهم فلا يتمكن، على سبيل المثال، أصحاب الكفاءات من استلام المناصب الحساسة في الدولة.
والحق يقال إن العقدة الأولى ليست دقيقة، بحيث أن المسيحيين عاشوا في الدول العربية معززين مكرمين في الخليج وفي مصر (قبل 1952)، وجنوا ثروات هائلة، كما أن السياحة العربية كانت تنفق الأموال الهائلة في المناطق المسيحية أكثر من أي منطقة أخرى… إلخ.
رابعاً: يجب أن نعترف أن المؤامرة الأميركية الغربية الصهيونية كانت قادرة على التحكم في مسار الحرب اللبنانية، في أهم محطاتها، وكان كثير من اللاعبين، من كافة الأطراف، ألعوبة في يد المؤامرة يتم توجيههم بما يخدم الهدف الكبير للمؤامرة، وهو ضرب المقاومة الفلسطينية وإشغالها بالحرب اللبنانية، وضرب الاقتصاد اللبناني المزدهر الذي يسيء إلى إسرائيل، وضرب فكرة التعايش بين اللبنانيين خدمة للفكرة العنصرية الصهيونية. وتمّ ذلك عن طريق أمرين:
أ- إقناع المسيحيين بأن الفلسطينيين يريدون لبنان وطناً بديلاً لهم، وأكدوا ذلك من خلال مبعوث الوزير كسنجر السفير دين براون، وذلك في نيسان 1971 الذي طلب من الرئيس فرنجية وقتها بأن يركب الموارنة في السفن الأميركية قائلاً: «لقد قضي الأمر يا مسيحيي لبنان، مآلكم كندا، وها هي البواخر قبالة شواطئكم بانتظاركم في عرض البحر، فلستم هنا إلا فائضاً بشرياً لا مستقبل له». أصبح المسيحي يحارب عن عقيدة وبشراسة دفاعاً عن أرضه، فيما أن هذه الفكرة لم تكن صحيحة، كما لم تكن قابلة للتطبيق، ولم يكن الإسرائيلي ليقبل بتوطين الفلسطينيين على حدوده، ولم يكن الفلسطينيون ليقبلوا بوطن بديل عن فلسطين.
ب- إقناع المقاومة الفلسطينية بأنها لن تستطيع محاربة إسرائيل حتى تحمي ظهرها من عملاء إسرائيل، فكان الشعار الكبير الذي استثمر كثيراً في هذا الاتجاه (طريق القدس تمر من جونية).
هاتان الفكرتان الخبيثتان، كانت كمن يصب الزيت على النار ويمد النار بوقود متجدد.
خامساً: نعم، الجميع أخطأ، والجميع تم التلاعب به، ولكن فارق كبير بين من يعلم تماماً أنه مخطء وأنه جزء من المؤامرة، وبين من تم خداعه بطريقة أو بأخرى، كما قال سيدنا علي (رضي الله عنه) عن الخوارج: «ليس من طلب الحق فأخطأه، كمن طلب الباطل فأصابه». بالتأكيد ليس من تعامل مع إسرائيل بحجة طلب الحماية، كمن ارتبط بالمقاومة الفلسطينية بما تحمل من شعارات عالية الأهمية. ليس هذا كذاك، وإن كانت المقاومة الفلسطينية أخطأت بالتأكيد بالتكتيك، وبكثير من الممارسات، ولكن الهدف المفترض كان مواجهة الصهيونية بما تحمل من أفكار وممارسات معادية للإنسانية.
وهنا لا بد أن نذكر أن التعامل مع إسرائيل لم يكن وليد الخوف من التوطين ومن الفلسطينيين، بل لقد أثبتت كتابات كثيرة أن مؤسس حزب الكتائب (الشيخ بيار الجميل) طلب من إسرائيل مساهمة مالية لدعم معركته الانتخابية عام 1951، حيث لم يكن هنالك مقاومة فلسطينية ولا عبد الناصر ولا شعارات قومية أو إسلامية كبرى. وأرسلت له إسرائيل ثلاثة آلاف دولار، عوضاً عن العشرة الآلاف التي طلبها.
-
أرشيف الحرب اللبنانية 1975 – 1990 (أ ف ب)
كما إننا لا ننسى أن شخصيات مسيحية بارزة تحدثت لفترة ما عن وطن قومي ماروني في لبنان في مقابل وطن قومي يهودي في فلسطين، وكان أبرز هؤلاء البطريرك أنطون عريضة (1932-1955) ومطران بيروت أغناطيوس مبارك، وطبعاً الرئيس إميل إده.
وحتى تكتمل الصورة. نحن لا نتهم المسيحيين جميعاً ولا الموارنة، بأنهم جميعاً يوافقون على هذا الطرح الاستعماري، بل إن إميل إده تراجعت أسهمه كثيراً بعد الاستقلال والمطران عريضة تمت إقالته من قبل الفاتيكان… إلخ.
كما إن ممارسات الميليشيات المرتبطة بالعدو الصهيوني لم تكن لتحظى بشعبية واسعة، ودليل ذلك أن العماد ميشال عون عندما أعلن حرب الإلغاء والتحرير عام 1989، اكتسب شعبية خيالية وأصبح الجمهور العريض ينام في ساحات قصر بعبدا (قصر الشعب) كما أسماه وقتها، والحق إننا تفاجأنا بهذا الأمر، لأن الإعلام كان يصور مليشيات القوات اللبنانية كممثل وحيد للموارنة في لبنان… إلخ.
سادساً: إذا لم يبن لبنان الجديد على أساس تأكيد الخطر الصيهوني على لبنان كصيغة العيش المشترك، بل على المسيحيين قبل المسلمين، وعلى كل شعار إنساني وكل هدف ذي قيمة، إذا لم يبن «لبنان الجديد» على هذا الوضوح، فعبثاً نتحدث عن إصلاح وعن دولة جديدة وعن عهد جديد وعن آمال عريضة.
وما نراه اليوم مؤسف جداً، حيث تركز فئة لبنانية على نزع سلاح المقاومة بطريقة فظّة، وغير قابلة للتطبيق، فيما يتم السكوت عن الاعتداءات الإسرائيلية اليومية المتمثلة باغتيالات واسعة وتدمير واحتلال، وباستخفاف بكل الاتفاقات وبكل المواثيق والمعاهدات الدولية.
كما إنهم يتحدثون عن حرب الإسناد وكأنها جريمة تناقض الانتماء للبنان والوطن، يعني يريدون لبنان المفترض خالياً من المشاعر الإنسانية والعلاقات العربية الحقيقية، إلا أن تكون هذه العلاقات سبباً لاستجلاب الأموال والاستثمارات. ليصبح لبنان من نظرهم مجرد متسول للرساميل على حساب كل المبادئ والقيم والإنسانية.
سابعاً: لن يكون استذكاراً للحرب اللبنانية نافعاً دون أن تكون هذه الفكرة واضحة جداً. ونشير هنا إلى أهمية ما فعله المسؤول السابق في القوات اللبنانية (أسعد شفتري) واعترف بالجزء الأكبر من الإخطاء والجرائم التي مارستها القوات اللبنانية، فيما أن الذين زعموا تمثيل الحركة الوطنية اللبنانية والمقاومة الفلسطينية، واعتذروا على مشاركتهم الحرب لم يكونوا منصفين، لأنهم لم يضعوا الأمور في سياقها السليم.
ثامناً: في هذه المرحلة الدقيقة والتي قد تكون أصعب المراحل منذ نكبة 1948، علينا أن نطرح الأمور بدقة، فرغم المآسي التي حلت بنا، فان ما أنجزته المقاومة في لبنان عام 2000 ثم عام 2006 كان تاريخياً. وما قدمه شعب فلسطين وأهل غزة من صمود وبطولات خيالية، يجعلنا نحلم بمستقبل واعد، رغم المآسي التي تحيط بنا.
* رئيس «الاتحاد العالمي لعلماء المقاومة»