لماذا يفضل ترامب المفاوضات مع إيران على الحرب؟

لماذا يفضل ترامب المفاوضات مع إيران على الحرب؟
تُشير التطورات الأخيرة بين الولايات المتحدة وإيران إلى مسار تصعيدي حذر، إذ وجَّه الرئيس الأميركي دونالد ترامب تهديداً مباشراً بضرب إيران عسكرياً ما لم تقبل باتفاق نووي جديد خلال شهرين، مُلوِّحاً بـ «الخيار العسكري» كخيار أخير. من جهتها، ردّت طهران برفض التفاوض «تحت التهديد»، مؤكدة استعدادها للمواجهة إن فُرضت عليها، بينما كشفت عن جزء من ترسانتها العسكرية، بما في ذلك صواريخ قادرة على استهداف المطارات التي تنطلق منها الطائرات الأميركية. وفي المقابل، حشدت واشنطن قواتها في المنطقة، بما في ذلك انضمام حاملة الطائرات «كارل فينسون» إلى حاملة الطائرات «هاري إس. ترومان»، وتمركز طائرات «B2» في جزيرة دييغو غارسيا في إيطاليا، في إشارة إلى جدية التهديدات.
حدث التحوّل البارز مع استدعاء ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى البيت الأبيض، حيث أعلن عن بدء مفاوضات مباشرة مع إيران في سلطنة عُمان يوم السبت 12 أبريل 2025. رحّبت طهران بالخطوة، لكنها أصرّت على إجراء مفاوضات غير مباشرة، وذلك على عكس إعلان ترامب بإجراء مفاوضات مباشرة.
أثناء المؤتمر الصحافي في البيت الأبيض، بدا نتنياهو متفاجئاً ومربكاً، بعد أن روّج إعلامه أنه ذاهب إلى واشنطن للحصول على إعفاء من رسوم ترامب الجمركية، وهو ما لم يمنحه إياه ترامب، ولم يمنحه أيضاً وعداً بتوجيه ضربة عسكرية إلى إيران في حال انتهت مهلة الشهرين من دون التوصل إلى اتفاق، ولا وعداً بأن يتضمن الاتفاق تفكيك برنامج إيران النووي. كل ما تعهّد ترامب به هو عدم حصول إيران على سلاح نووي. لاحقاً، طالب نتنياهو، في مؤتمر صحافي منفرد، بتطبيق نموذج تفكيك البرنامج النووي الليبي على إيران.
بعد انتهاء الجولة الأولى من المفاوضات غير المباشرة في مسقط العُمانية، وصف الطرفان المحادثات بـ «الإيجابية» و«البنّاءة»، وتمّ الاتفاق على جولة جديدة بعد أسبوع، في مسقط ذاتها.
تعكس هذه التطورات المتسارعة أن إدارة ترامب، وعلى عكس رغبة حكومة الكيان الإسرائيلي، تفضل خيار المفاوضات مع إيران على المواجهة العسكرية معها. يمكن إرجاع ذلك إلى عدد من الأسباب، أبرزها صعوبة إقناع المواطن الأميركي بخوض حرب يقدّم فيها الشعب الأميركي الدماء في معركة لا توجد فيها مصلحة واضحة أو صد تهديد مباشر للولايات المتحدة. نما هذا الاتجاه شعبياً في الولايات المتحدة نتيجة الآثار والنتائج اللتين خلفتهما الحرب في العراق وأفغانستان على الوعي الأميركي؛ وكذلك تحوّل الولايات المتحدة إلى أكبر منتج للنفط (13.4 مليون برميل يومياً، تغطي 67% من احتياجاتها) ما يعني أن حاجتها إلى خوض حروب للحفاظ على إمدادات النفط لتحريك عجلة الاقتصاد، ليست ملحّة.
جدير بالذكر هنا أنّ الولايات المتحدة لم تقتنص أكثر من مناسبة، خلال ولاية الرئيس السابق جو بايدن، أطلقت فيها إيران الصواريخ باتجاه الكيان كمبرر لشن ضربات عسكرية ضدها. بل وفي ولاية ترامب الأولى، أطلقت إيران الصواريخ على قاعدة أميركية في عين الأسد العراقية، رداً على اغتيال قائد الحرس الثوري قاسم سليماني.
من جهة ثانية، تتعارض أولويات ترامب الداخلية والخارجية، بل والخاصة، مع خوض حرب ضد إيران. يركّز ترامب على سياسة الانكفاء نحو الداخل الأميركي، كما يركز على استنهاض الاقتصاد الأميركي، ما يعني أن تورطه في حرب ضد إيران سيعرقل هذه السياسات وقد يضع نهاية لها. وكذلك سعي ترامب إلى الترشح لنيل جائزة نوبل للسلام، يدفعه إلى البحث عن صورة صانع سلام، وليس صانع الحروب. في خطابه عقب خروجه من البيت الأبيض في نهاية ولايته الأولى، طالب ترامب الشعب الأميركي أن يذكر أنه الرئيس الوحيد الذي لم يخض حرباً.
يدرك الساسة في واشنطن أن امتلاك إيران للسلاح النووي يقوّض مساعي الهيمنة التي يسعى الكيان الإسرائيلي إلى فرضها على المنطقة، لكنه لا يشكل تهديداً للولايات المتحدة
تشير عدد من الدلائل إلى أن الأوضاع الاقتصادية داخل الولايات المتحدة لا تحتمل خوض حرب جديدة. على نحو شبه يومي، تنشر وكالات الأنباء أخباراً عن سقوط طائرات -عسكرية أو مدنية- أو عن تصادمها في أجواء الولايات المتحدة. وتصاعد الحديث في الآونة الأخيرة عن ازدياد تردي البنى التحتية والخدماتية في الولايات المتحدة الأميركية سوءاً. في عام 2021، خصّص الكونغرس 1.2 تريليون دولار للصيانة، في حين تواجه المشاريع تأخيراً بسبب نقص العمالة الماهرة. ترامب نفسه كان قد تحدث في ولايته الأولى عن ضرورة تحديث الأسطول العسكري الأميركي، ما عكس حالة من تراجع الصيانة وتراجع قدرات التصنيع العسكري.
تحتاج القوات المسلحة الأميركية إلى 750 مليار دولار لتحديث أسطولها. وليس سراً أن الصين تجاوزت القدرات الأميركية في بناء حاملات الطائرات، إن لم يكن على مستوى التسليح والتكنولوجيا، فعلى الأقل لناحية سرعة إنتاج حاملات الطائرات، وعدد القطع البحرية المنتجة (أنتجت الصين 3 حاملات جديدة عام 2024 مقابل واحدة لأميركا). إضافة إلى ذلك، فإن أي حرب مع إيران لن تكون سريعة ولا سهلة، وسيكون لها انعكاس سيّئ على خطة ترامب في إعادة أميركا إلى مجد الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي على قمة هرم التصنيع العالمي.
صحيح أن بعض دول الخليج قد تقدم الأموال، التي قد تصل ربما إلى بضع تريليونات من الدولارات إلى الولايات المتحدة، إلا أن ذلك لن يحل مشكلة نقص الأيدي العاملة الماهرة في الولايات المتحدة، ولا حاجة عدد من الأسلحة الأميركية إلى الصيانة. في الواقع، فإنه في ظل المشاريع الرؤيوية الكبيرة التي تخطط لها دول كبيرة في منطقة الخليج، مثل السعودية («رؤية السعودية 2030»، تستثمر 3.3 تريليونات دولار)، فإنه ليس من مصلحتها أن تتحول إلى ساحة لمعركة لا يمكن التنبؤ بنتائجها، أو على الأقل، لا يمكن التنبؤ بتكاليفها وخسائرها. وقوع حرب لن يؤدي إلى دمار واسع وتكاليف باهظة على المستويات كافة، واستنزاف مالي غير مسبوق فقط، بل قد يطيح بكل الرؤى الاقتصادية على المدى المنظور.
على صعيد آخر، لا تشكل إيران أي تهديد عسكري للولايات المتحدة، حتى لو امتلكت السلاح النووي بكميات كبيرة. تعايشت الولايات المتحدة مع وجود قوى نووية منافسة لها، على مدى عقود طويلة، في مقدمتها روسيا التي تفوقها في عدد الرؤوس النووية (تشير بعض الدراسات إلى امتلاك الولايات المتحدة 5224 رأساً نووياً، مقابل 6257 لروسيا، و420 للصين. بل وتعايش ترامب مع امتلاك كوريا الشمالية للسلاح النووي (50 رأساً نووياً). فحتى في حالة امتلاك إيران للسلاح النووي، فإن ذلك لا يشكل تهديداً وشيكاً للولايات المتحدة. يدرك الساسة في واشنطن أن امتلاك إيران للسلاح النووي يقوّض مساعي الهيمنة التي يسعى الكيان الإسرائيلي إلى فرضها على المنطقة، لكنه لا يشكل تهديداً للولايات المتحدة. إضافة إلى أن امتلاك السلاح النووي لا يعني، بذاته، امتلاك القدرة على استخدامه.
وعلى عكس التحريض الذي تشيعه وسائل الإعلام الموالية للكيان الإسرائيلي، فإنّ محور المقاومة في المنطقة، ورغم الضربات الثقيلة والقاسية التي تلقاها، لا يزال قادراً على المواجهة، ولا سيما إذا فرضت عليه مواجهة وجودية. يكفي للدلالة على ذلك عجز جيش الاحتلال، رغم استخدامه أحدث التكنولوجيا الأميركية، عن فرض الهزيمة على قوى المقاومة في غزة، التي لا تزال تفاوض وتقاتل، رغم كل الدمار والإبادة. وبالمثل، لم تؤد الضربات الأميركية المكثفة في اليمن إلى دفع «أنصار الله» إلى طلب وقف إطلاق النار، ولا حتى إلى وقف قصف تل أبيب بالصواريخ، بعد ما يزيد على شهر. ترسل هذه الوقائع رسالة إلى الإدارة الأميركية أن خوض حرب مع إيران لن يكون بلا كلفة عالية عسكرياً. إضافة إلى أنه في ظل حرب قد تكون مصيرية، لن يكون «حزب الله» في لبنان ولا الحشد الشعبي في العراق بعيداً منها.
يُضاف إلى ذلك أنه في ظل الأزمة الحالية بين أوروبا والولايات المتحدة (الخلاف بخصوص الحرب في أوكرانيا، والرسوم الجمركية)، وعدم اليقين بخصوص مستقبل حلف الناتو، فإن الولايات المتحدة لا تبدو في مرحلة تستطيع معها حشد تحالف دولي ضد إيران، ولا سيما في ظل سياسة الحرب التجارية المتأججة على ضفتي الأطلسي. أضف إلى ذلك أن حرباً مع إيران يمكن أن تدفع الصين وروسيا إلى تزويد طهران –ولو سراً- بأحدث الأسلحة لاستنزاف القدرات الأميركية.
تجدر الإشارة إلى أنه في ظل الرسوم المرتفعة التي فرضها ترامب على الواردات من الصين، وفي ظل سعيه إلى إعادة مجد الصناعة الأميركية، فإنه بحاجة إلى الوصول إلى المعادن النادرة في الداخل الإيراني. تحتاج صناعات ترامب إلى المعادن الإيرانية النادرة، مثل الليثيوم (8.5 ملايين طن، ما يعادل 10% من الاحتياطي العالمي) والكوبالت. كما تمتلك إيران أكبر احتياطيات من الباريت في العالم، وثاني أكبر احتياطيات من الفلسبار، وثامن أكبر احتياطيات من الفلورسبار، وتاسع أكبر احتياطيات من خام الحديد.
لهذه الأسباب، وغيرها، فإن توجيه الولايات المتحدة ضربة عسكرية لإيران يبدو مستبعداً، أو غير عقلاني، على أقل تقدير، ولا يصب في مصلحة الولايات المتحدة ذاتها. أضف إلى ذلك حاجة إيران إلى التوصل إلى اتفاق يرفع عن كاهلها أثقال الحصار الاقتصادي المشدد.
غالب الظن أن تركّز المحادثات على نقطتين يبدو التوافق تاماً فيهما بين الطرفين، الأولى: عدم امتلاك إيران لسلاح نووي، والثانية: اتفاقات اقتصادية تسمح للولايات المتحدة بالوصول إلى الثروات والمعادن الإيرانية، وتسمح لإيران بفك الحصار عنها.
المعضلة الأساسية هي موقف اليمين الصهيوني، سواء في الولايات المتحدة أو في الكيان الإسرائيلي. فهل يملك نتنياهو واللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة خطة أو إمكانية لعرقلة المفاوضات الجارية؟ وهل يجرؤ نتنياهو على إغضاب ترامب كما كان يفعل مع بايدن؟ وهل يسعى نتنياهو إلى شن عدوان جديد على لبنان لتحسين شروطه على طاولة المفاوضات التي بات مقصياً عنها؟
*باحث وسياسي فلسطيني