تحقيقات وتقارير

عالم ترامب: من السّوق الحرّ إلى العولمة الإمبراطورية

عالم ترامب: من السّوق الحرّ إلى العولمة الإمبراطورية

عامر محسن

عامر محسن

 

فلنبدأ بالتخلّي قليلاً عن خطاب السخرية والاستخفاف والتبسيط الذي كثيراً ما نستحضره عند نقاش إدارة ترامب وقراراتها: «ها ها، هذا الأرعن»، «كاوبوي يضرب خبط عشواء»، «إن كنت تريد حصار الصين، يا أبله، فكيف تفرض الرسوم على حلفائك وتعاديهم؟»، «الحمد لله الذي جعل أعداءَنا من الحمقى»… أنا أفهم المتعة التي تستمدّها الجماهير – تاريخياً – من السخرية ممن هم «فوق»، وأقدّر حاجة الضعفاء أن يضعوا الأقوياء «تحتهم»، ولو رمزيّاً وبالنكتة، ولكنّ لكلّ شيءٍ حدّاً ومكاناً (هل لا يزال نتنياهو، بالمناسبة، مأزوماً خائفاً يهرب إلى الأمام؟).

أنا كنت أوّل من يسخر معكم من ترامب، وأكثر من يستمتع بقصصه الطريفة وأخبار عائلته، وأعرفه وأتابعه منذ زمن: كنت، يا إخوان، أشاهد «ذا ابرنتيس» (أواسط الألفينيات، المرحلة الذهبية لتلفزيون الواقع). ولكنّ هذا كلّه توقّف حين أصبح ترامب رئيساً للولايات المتّحدة الأميركية. يعتبر البعض أنّ المقاتل الحذق هو ذاك الذي لا يجعل نفسه «كبيراً» و»خطيراً» في عين الخصم، بل يشجّع على أن تتجاهله وتستخفّ به وتقلّل من تقديره (حين كتبت أوّل مقالٍ عن ترامب، إثر ترشحه للرئاسة عام 2015، علّق أحدهم: «هو، بحسبك، مجنونٌ وأحمق، ولكنه ملياردير، وأنت عبقري ولكنك تكتب في «الأخبار»»).

ما نريد فعله هنا هو من شقّين: أوّلاً، تبيان أهمية الإجراءات الأخيرة لإدارة ترامب، وهي كفيلة بـ»إعادة هيكلة» نظام التجارة الدولي بأكمله، أي ما نسمّيه، اصطلاحاً، بـ»العولمة»؛ وسنحاول، ثانياً، أن نكشف المنطق الذي يحرّك هذه الحرب التجاريّة، أي كيف ترى إدارة ترامب المسألة وما هي خطتها العامة ولماذا تفعل ما تفعله، وأنّ القرارات التي قد تبدو عشوائية ومتناقضة هي ليست كذلك حقّاً، بل تمثّل عناصر في خطّة شاملة، أو بالأحرى «رهاناً» أسطوريّاً تقدم عليه إدارة ترامب.

لفهم حجم ما يحصل ومستواه، فقد يكون من الممكن تشبيه ما يجري اليوم على مستوى نظام التجارة الدولي بالخطّة الشهيرة لفريق المحافظين الجدد، قبيل وصول جورج بوش إلى الرئاسة، لإعادة تشكيل النظام العالمي بالقوة، وسلسلة الحروب التي أشعلوها ولا تزال مستمرّة. كما هو معروف، فإن موضوع الاقتصاد «تقنيّ» وليس دائماً سهلاً، والنظام النقدي الدولي، تحديداً، هو من أصعب فروعه على الفهم (وكلّما قلّ إلمامك بموضوعٍ زاد الميل لأن تتكلّم عنه بثقة). ولكنّ هذه هي قلب المسألة اليوم، والتعامل معها ليس خياراً. إن كان هناك من يؤمن بفصلٍ بين الاقتصاد والسياسة، وبين التجارة الدولية والحروب الدولية، فإنّ فريق ترامب نفسه يريد أن يشفيك من هذه الأوهام.

وزير الخزانة الأميركي، سكوت بيسِنت، وهو من أهمّ قادة هذه الحملة ومنظّريها، يقول ابتداءً في توصيف مشروعه إنّ «التجارة والأمن القومي هما توأمان سياميّان»، والشروط التجاريّة والسياسية تسير معاً، بل يضيف ستيفن ميران (سنعود إليه لاحقاً)، أنّ الربط بين السياسة والاقتصاد، واستخدام قدرتك في السوق لفرض تنازلاتٍ في السياسة، كان موجوداً في الماضي بالطبع، ولكنه سيصبح في المرحلة القادمة أكثر وضوحاً، ومنطوقاً بلا اعتذاريات.

قبل الدخول في الموضوع، هناك هامشٌ مثير يتعلّق بالنظام السياسي الأميركي وصلاحيّات الرئيس بخصوص ما يجري اليوم. في الداخل الأميركي، سلطة الرئيس (منفرداً) تظلّ محدودةً في الشأن المالي والاقتصادي. هناك مؤسسات، مثل المصرف الفدرالي والكونغرس، هي التي تقرر السياسة المالية وشؤون الميزانية والإنفاق. ومن يقرّر، فعلياً، هم ما يسمّى بـ»جماعة الأعمال»، أي أساطين الرأسمالية الأميركية: هم من يعيّن قادة المصرف المركزي، وهم يتحكمون بالكونغرس ويموّلون نوابه ويشرفون على كتابة القوانين. الفكرة هي أنه لو أراد الرئيس أن ينفق خمسين مليون دولار في الداخل الأميركي فهو يحتاج إلى بناء تحالفٍ سياسي، ولكنه يستطيع أن يغيّر بنية النظام المالي العالمي، ومعه الاقتصاد الأميركي بالطبع، عبر الجمارك والمعاهدات والعقوبات، وأن يتخذ ما يشاء من قرارات من هذا النمط من دون أن يسائله أحد.

هذه المفارقة، بالمناسبة، هي من بقايا «النظام القديم» للدولة الأوروبية ومفهوم السيادة فيها، حين كان من المتّفق عليه – في مختلف الملكيات – أنّ المجال الذي يقرّر فيه الملك وحده وبحصريّة هو المجال الخارجي والعلاقات مع الدّول الأخرى. هنا تحديداً لا تقاسم للسلطة والقرار مع أي مؤسسةٍ أو هيئةٍ أو مجلسٍ محلّي. ولأن التجارة الدولية هي في نطاق العلاقات الخارجية، فقد ورث الرئيس الأميركي قدرةً غير محدودةٍ على التصرّف في هذا المجال (عند كتابة الدستور الأميركي، بالطبع، كانت أهمية السوق الدولية وتأثيرها على الداخل الأميركي أقل بكثير مما هي اليوم، ولم يخطر ببال المشرّعين يومها حجم القدرة التي يضعونها في يد الرئيس).

انقلاب على البديهيات

إن كان مشروع المحافظين الجدد أيّام بوش قد تمثّل فكرياً عبر مركز «المشروع لأجل قرنٍ أميركي جديد»، والنصوص التي نشرتها تلك الحلقة من المنظّرين (وعلى رأسها تقريرٌ شهير عام 2000 بعنوان «إعادة بناء دفاعات اميركا»)، فإنّ الخبراء اليوم ينظرون إلى مشروع ترامب عبر ورقةٍ نشرها ستيفن ميران في نوفمبر الماضي، وعنوانها في ذاته دالّ: «دليل المستخدم لإعادة هيكلة نظام التجارة الدولي». ميران هو اليوم رئيس «مجلس المستشارين الاقتصاديين»، وكانت له مواقع مهمة في وزارة الخزانة خلال إدارة ترامب الأولى. وقد درس الاقتصاد في هارفارد ونجح في العمل الخاص قبل أن ينضم إلى فريق الرئاسة.

الورقة التي كتبها ميران هي عبارةٌ عن عرضٍ للـ»أدوات» التي يمكن لإدارة ترامب أن تستخدمها في إعادة تشكيل نظام العولمة، وتستطلع الطرق المحتملة والمخاطر التي تأتي معها، وكيفية تلافيها. ولكنّ الأهمية الحقيقية للنص هي في أنه يوضح نوايا إدارة ترامب تجاه الحلفاء والمنافسين، بشكلٍ أكثر اتّساقاً وتفصيلاً من أيام الحرب التجارية الأولى عام 2018-2019، ويكشف الأسس الفكرية والسياسية التي يستند إليها هؤلاء في مشروعهم.

«قد يكون من الممكن تشبيه ما يجري اليوم على مستوى نظام التجارة الدولي بالخطّة الشهيرة لفريق المحافظين الجدد، قبيل وصول جورج بوش إلى الرئاسة، لإعادة تشكيل النظام العالمي بالقوة، وسلسلة الحروب التي أشعلوها ولا تزال مستمرّة»

نقطة البداية هنا هي أنّ هؤلاء المفكّرين «يقلبون» النظرة التقليدية تجاه الإمبراطورية الأميركية ونظام الدولار. نحن نعرف أنّ كون الدولار هو عملة التجارة الدولية يمثّل «الامتياز المهول» الذي تتمتع به أميركا (بحسب التعبير الشهير لشارل ديغول). ولكن في سرديّة هؤلاء، فإنّ الدولار كعملة احتياط دولية يمثّل حقيقةً «عبئاً» على أميركا، وليس امتيازاً، وهو ما تسبب في اختلالات الاقتصاد الأميركي، وعجزٍ تجاريٍ دائمٍ، ومحو القطاعات الصناعية في البلد.

قد يبدو هذا الكلام غريباً للوهلة الأولى: أنت تشتكي من قدرتك على طبع المال؟ ومن أنك تستورد ما تشاء بلا حساب ويعيش متوسطو الحال من شعبك كالملوك؟ أو أن نصف مدّخرات العالم تتدفق إلى بلدك للاستثمار وشراء الأدوات المالية والأسهم؟ هذا تحديداً ما يقوله ميران وأمثاله؛ ولهذه السردية تاريخٌ فكريّ، ابتدأ مع الاقتصادي البلجيكي روبرت تريفين (الذي تنبّأ في الخمسينيات بأن نظام تثبيت سعر الدولار مقابل الذهب لن يكون قابلاً للاستمرار)، ونجده أخيراً مع أمثال مايكل بيتيس، وحوله حلقة من الاقتصاديين الأميركيين ينظّرون ضدّ نظام التجارة الحرة القائم ويعتبرون أنّ الصين تقوم باستغلاله (بيتيس وغيره يذهبون أبعد من ميران وترامب، فهم لا يمانعون بأن تتخلى أميركا نهائياً عن مهمة «عملة الاحتياط»، فيما ميران يقول إن ترامب يريد الحفاظ على نظام الدولار، بسبب النفوذ السياسي الذي يؤمّنه لأميركا، ولكن مع إصلاحه بشكلٍ جذري كما سنرى).

بتعابير أخرى، ومن دون الدخول في التفاصيل، فإن ميران (وترامب) لا يوصّفان نظام الدولار باعتباره امتيازاً، أو ضريبة الإمبراطورية، أو سجن الشعوب، أو باقي التعابير التي نستخدمها في العادة، بل هو يراه كـ»خدمة» تؤديها أميركا للعالم، وهذه الخدمة لها كلفة لا يجب أن تحملها أميركا وحدها. يطلبون منا أن ندفع لهم حتى «يسمحوا» لنا بأن نكون تحت سلطة الدولار، هي هكذا حرفياً. هل تريدون المزيد؟ الأمر ذاته ينطبق على الجيش الأميركي وشبكة الهيمنة العسكرية التي بناها حول العالم، ما نسمّيه أحياناً بـ»الإمبريالية»، هذه أيضاً – عند ميران وترامب – «خدمة» تؤديها أميركا، إذ تحمي المنظومة الديمقراطية في العالم، ولا يجب أن تدفع كلفتها وحيدة وتؤمّن الحماية لغيرها بالمجّان.

قد يثير الأمر فكرة أن هناك من يعتبر أن أميركا «مظلومة» في النظام العالمي الذي بنته، ولكنك وأنت تقرأ ميران تخرج بانطباعٍ متزايد بأنّ أميركا هي بالفعل ضحيّةٌ يتمّ استغلالها. كل ثروات أميركا هي بفضلها وحدها وكلّ مشاكلها هي بسبب الآخرين. حتى العجز في الميزانية والعجز في الميزان التجاري هما أمران «مفروضان» على أميركا، وليسا بسبب سياساتها ونمطها الاقتصادي. الفكرة، كما يلخّصها ميران، هي أنّ «العجز الأميركي ليس سببه أن أميركا تستورد كثيراً، بل إنّ اميركا تستورد الكثير لأنها مجبرةٌ على تصدير سندات الخزانة بالدولار (لتلبية الطلب العالمي)».

على الهامش: الفكرة تبدو غريبة، ولكنها تستند إلى طريقة اقتصادية ناشئة يسميها البعض، تحقيراً، «جبريّة ميزان المدفوعات»؛ بمعنى أنه إن كان هناك طلب على الدين الأميركي، فلا بدّ أن تصبح أميركا مدينة ويغرق شعبها في القروض، وإن كانت دولٌ مثل الصين وألمانيا تراكم فوائضَ في التجارة والمدّخرات، فهي لا بدّ أن تتحوّل إلى ديونٍ في أميركا واستيرادٍ غير محسوب، كأن العملية ميكانيكية وحتمية.

يعترف ميران بأنّ نظام العولمة قد أمّن ريعاً هائلاً لأميركا، ولكنه يقول إن هذه الأرباح قد تركّزت في صفوف الفئات المالية في «وول ستريت»، أي أولئك الذين يقومون بدور الوساطة مع العالم، و»بيع» الدولار للأجانب، ويحوّلون فوائض الخارج إلى استثمارات في أميركا وسنداتٍ وأسهم. هؤلاء قد أثروا بشكلٍ خرافيّ، ولكن ذلك كان على حسابٍ فئاتٍ أخرى، يقول ميران، هم العمال الصناعيون (البيض) الذين تراجعت أوضاعهم وأُفقرت بلداتهم ومدنهم مع تفكيك القطاع الصناعي الأميركي، وهؤلاء هم ناخبو ترامب.

عرضٌ لا يمكنك رفضه

الفارق الأساسي بين توصيات ميران وما فعله ترامب الأسبوع الماضي هو أنّ المستشار الاقتصادي قد أوصى بالتدريج في سياسة الجمارك وغيرها، فيما ترامب أطلق «المرحلة الأولى» بشكلٍ صاعقٍ وشامل: جمارك مرتفعة على الجميع، الحلفاء قبل الخصوم (قبل الإجراءات الأخيرة، كانت أميركا تتميز بأحد أقل مستويات الضرائب الجمركية في العالم، أقل من ثلاثة بالمئة في المعدل، مقارنة بخمسة بالمئة في أوروبا وعشرة بالمئة في الصين).

هذا له منطقٌ وسبب سوف نشرحه أدناه، فمفاوضات الجمارك هنا ليست غايةً في ذاتها، بل هي مجرّد «خطوة أولى» في بناء منظومةٍ جديدة. والهدف النهائي بالنسبة إلى واشنطن يصل إلى التحكّم بالعملة، وإجبار الدول الأخرى على رفع قيمة عملاتها أمام الدولار، وجعلها مسؤولةً عن تقليص العجز التجاري الأميركي، بل والعجز الحكومي أيضاً – نحن لا نزال في البداية.

ما يتخيّله فريق ترامب بحسب ميران هو نظام جديد للتجارة والأمن تقسم الدول فيه إلى ثلاث فئات: دولٌ «صديقة» ستستجيب لمطالب أميركا «العادلة»، وتخفّض الجمارك عليها (إلى عشرة بالمئة مثلاً)، وتكون ضمن ما يسميه بـ»المظلة الأمنية الأميركية»، وتلعب دورها فيها. الفئة الثانية هي دول الموقف تجاهها «محايد»، استجابت لأغلب المطالب ولكنها ليست عضواً كاملاً في النادي، وتكون الجمارك عليها بحدود العشرين في المئة.

وفي «سلّةٍ» ثالثة نضع الدول التي اختارت أن تظلّ خارج تلك المظلّة الأمنية\التجارية، فتكون الجمارك عليها مرتفعة (خمسين بالمئة أو أكثر)، والتجارة مع أميركا وحلفائها محدودة، وأميركا غير مسؤولةٍ عن الدفاع عنها (بمعنى آخر، سوف تحصل لهم حوادث سيئة باستمرار ويسوء طالعهم بشكلٍ كبير، فالحماية التي يحتاج إليها أكثر العالم هي من واشنطن نفسها).

«أوّل من تبدأ معه في مثل هذه الحالات هم الحلفاء الأقربون، الذين يعتمدون عليك، وأولئك الذين يخضعون لتأثيرك وهيمنتك وفي وسعك الضغط عليهم وضمان امتثالهم. من هنا أيضاً لم يأخذ ترامب المسار التدريجي، بل استخدم كامل قوته النارية من اللحظة الأولى»

إن كان موضوع الجمارك حساساً وخطيراً، قد تؤدي سوء إدارته إلى نتائج صاعقة على الاقتصاد الدولي والأميركي معاً، فإنّ موضوع العملة هو أكثر خطورة، ويحتاج إلى تنسيقٍ كبيرٍ مع الحلفاء، وإلى حلفاءٍ مستعدين لأن يعملوا ضدّ صالحهم (يقولها ميران صراحةً)، وهو – إن انقلب على صانعيه – فقد يخرّب الاقتصاد الأميركي تخريباً (بخاصة إن ترافق مع رفع الجمارك، فتكون أضفت سبباً للتضخّم على آخر). ولهذا السبب، يقول ميران، يُترك موضوع العملة (وهو الأساس) للمرحلة اللاحقة وتكون مفاوضات الجمارك هي نقطة الانطلاق.

هذه المنظومة لن تعمل إلّا إن وافقت غالبية الاقتصادات الكبرى على دخولها، وذهبت أميركا لتفاوض الباقين وخلفها كتلةٌ كبيرة تمثّل أغلب الاقتصاد العالمي – ساعتها ستنضمّ الدول الصغيرة والمحايدة بسرعةٍ إلى الرّكب. وأوّل من تبدأ معه في هذه الحالات هم الحلفاء الأقربون، الذين يعتمدون عليك، وأولئك الذين يخضعون لتأثيرك وهيمنتك وفي وسعك الضغط عليهم وضمان امتثالهم.

من هنا اأضاً لم يأخذ ترامب المسار التدريجي، بل استخدم كامل «قوته النارية» من اللحظة الأولى، فالهدف هو أن تقصّر من مرحلة «الانتقال» وانعدام التوازن، وأن تضع المعنيين أمام الحائط، لأنك لا تحتاج إلى مفاوضاتٍ طويلةٍ ومرهقة، بل إلى جوابٍ والتزامٍ واضح، وفوراً (كما هو معروفٌ، فإن أوروبا والصين هي وحدها كفيلةٌ بمقاومة مثل هذه الإكراهات وتطوير سياسة ردّ على أميركا، وليس سريلانكا أو ميانمار. دولةٌ مثل فييتنام تصدّر إلى أميركا بأكثر من مئة مليار دولار سنوياً، وجزء أساسي من دخل كمبوديا القومي هو من فائض تجارتها مع أميركا، هذه الدول الصغيرة لا تملك خياراً).

إن كنتم لا تصدّقون بأن المسألة ليست مسألة جمارك، فإنه يكفي قراءة القرار الأميركي برفع الرسوم، فهو لا يعد بإزالة الرسوم، مثلاً، حين يقوم الشركاء التجاريون بإزالة العوائق الجمركية من جهتهم، بل يربطونها بأهدافٍ أخرى مثل مستوى العجز في التجارة بين البلدين (أي إنّه حتى لو كانت رسومك على الواردات الأميركية صفراً، ولكنك تحقق فائضاً في التجارة مع أميركا، فإن عليك تعديل سلوكك.

بمعنى آخر، هم لا يحاسبونك على الفعل، بل على النتيجة). هناك قولٌ مشهور لوزير الخزانة الأميركية في أوائل السبعينيات، حين خاطب حلفاءه الأوروبيين قائلاً: «الدولار عملتنا ولكنه مشكلتكم». اليوم توسّع هذا المنطق ليصبح العجز التجاري الأميركي أيضاً «مشكلتهم»، والعجز الحكومي مشكلتهم، وأي شيءٍ يحدّ من فرض الإرادة الأميركية حول العالم.

بعد إصدار القرار، قامت عدّة دولٍ – مثل فييتنام والأرجنتين وغيرهما – برفع الرسوم عن البضائع الأميركية فوراً وتصفيرها، ولكنّ ردّ الرئيس الأميركي كان ببساطةٍ أنه «سيجتمع» معهم لعقد اتفاق، أي إن عليهم فعل «أمورٍ أخرى» قبل أن تخفّض عليهم الجمارك. هذه «الأمور الأخرى» يفصّلها ميران في ورقته، وهي تبدأ طبعاً بالتزاماتٍ سياسية: حين تذهب أميركا لمواجهة الصين في حربٍ تجارية، فهي لن تفعل ذلك وحدها، بل سترافقها أوروبا واليابان وكوريا وباقي الحلفاء، وسيرفعون معاً الجدار الجمركي حول الصين. ومعروفٌ أنّ مثل هذه الطلبات، حين تبدأ، فهي لن تنتهي. وماذا كنتم تتوقّعون؟ أنّه مع تغوّل الإمبراطورية واشتداد هيمنتها ستصبح شروطها ومطالبها أكثر سهولةً ويسراً؟

خاتمة

لا يجب أن نبالغ في قراءة سياسات ترامب من خلال ورقة ميران، فهو في النهاية صوتٌ واحد ضمن عدة أصواتٍ حول الرئيس، تتفق في الخطوط العامة ولكنها تختلف على التنفيذ والتفاصيل (يبدو أنه لم تتم دعوة ميران إلى اجتماع الإعلان عن الحزمة الجمركية، ما قد يشير إلى اختلافات معه حولها)؛ ولكن الهدف هنا هو أن نفهم الخلفية والرؤية السياسية عند هؤلاء الناس. بالمثل، نحن لم نقدّم هنا نقداً لهذه الأفكار ولم نناقش احتمالات فشل هذه الرؤية وثغراتها. عند ميران مثلاً العديد من النقاط العمياء، أو هو يستخدم ثنائيات ليست دوماً دقيقة (هو يكتب كأنّ الواردات إلى أميركا، إن توقّفت، فالبديل الحتمي هو أن يتمّ إنتاج هذه الأمور داخلياً، ولكنه لا يأخذ في الاعتبار الاحتمال الثالث، وهو أن تنخفض القدرة الشرائية للأميركي ويتقلّص استهلاكه).

على الأرض، يقول الكثير من المحللين إن خطة «إعادة التصنيع إلى أميركا» دونها عقباتٌ جمّة، من الصعب أن يحصرها اقتصادي نظري المنهج. عملية تجميع هاتف الـ»ايفون» وتركيب قطعه تكلّف في الصين 20 دولاراً، تقول «وول ستريت جورنال»، ولكنها في أميركا لن تقلّ عن مئتي دولار للهاتف الواحد – والأمثلة من هذا النوع كثيرة.

وقبل هذا كلّه، بدلاً من أن يُصعق الحلفاء الأوروبيون والآسيويون ويقرروا الانصياع فوراً فهم قد يجدون أنه من الأنسب، بدلاً من السير في هذا الطريق الإذلالي الطويل، أن يناوروا ويصبروا لسنتين – حتى الانتخابات النصفية – أو أربع سنوات على الأكثر، ويتركوا الركود والفشل الاقتصادييْن يتولّيان أمر ترامب. أما الصّين وغيرها، فقد تقرّر ببساطة أنّ في وسعها أن تعيش من دون الفائض التجاري مع أميركا، وأن تتحمل الكلفة مرّةً واحدة بدلاً من أن تدفعها كلّ يوم (يراهن ميران على أنّ أميركا ستكون أقدر على احتمال الأذى الاقتصادي من الحرب التجارية مقارنة بالصين).

المتغيّرات والاحتمالات كثيرة، ولكن المشكلة هي أن هذا «الرّهان»، بالنسبة إلى الفريق الرئاسي، قد يكون رهاناً من النوع الذي لا يمكن لك أن تخسره. السيناريو السلبي في هذه الحالة سيكون قاتماً للغاية إن تحقّق: تضخّمٌ في أميركا وركود، هروبٌ للاستثمارات والودائع، انهيار سوق الأسهم الأميركي وسوق السندات وارتفاع معدلات الفائدة، وقطاع العقار والبيوت في أميركا مرتبطٌ بمعدلّ الفائدة، وهكذا دواليك.

بمعنى آخر، ترامب لم يدخل هذه المواجهة لكي يتراجع، وفريقه واعٍ للاحتمالات السلبيّة وسيكون ردّه بالغ القسوة على من لا يتعاون. أحد الأصدقاء (وهو يعمل محللاً مالياً) يؤكّد لي أنّ أميركا إن لم تحصل على ما تريده من الحلفاء (والخصوم) عبر الرسوم والتجارة، فهي ستنتقل مباشرة إلى الكلام العنيف والضغط الأمني والعسكري. المهمّ هو أنّه، في التاسع من نيسان، سوف تدخل هذه الرسوم حيّز التنفيذ ونفتتح حقبةً جديدة من العولمة والحروب التجارية وسياسات القوّة، و»الغبي» الوحيد هنا هو ذاك الذي يستخفّ بها.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب