ثقافة وفنون

الكلام الذي يترك في الروح دويّاǃ

الكلام الذي يترك في الروح دويّاǃ

توفيق قريرة

أن تستعذب قول المتنبّي (وَتَركُكَ في الدُنيا دَوِيّا كَأَنَّما // تَداوَل سَمعَ المَرءِ أَنمُلُهُ العَشرُ) شيء وأن تعالجه إدراكيا بما توفّر من إمكانات من النظريات الدلاليّة العرفانية شيء آخر. ولا يعني ذلك أنّ متعتك باستعذاب القول الشعري أقلّ أو أكثر شأنا من «تحليلك» العرفاني له؛ إنّما نحن إزاء مستويين من التعامل مع القول يتقاطعان في عمليّة الإدراك والفهم. فأنا لا يمكن أن أجد جميلا، إلاّ ما أدرك عناصر جماله ولا يمكن أن أجد عذبا إلاّ الأشياء التي تكون لي معها تفاعلات عاطفية وجمالية وإدراكية مترابطة. التفاعل الجمالي يمكن أن يكون محفزا إدراكيا وعاطفيا؛ فمن خلال تلقي الصوت الجميل، أو الصورة الجميلة أو القول الجميل، فإنّ عمليات ذهنية تعالج تناسقه وكسره للأنساق وما يحدثه من مفاجأة، وهذا يستثمر عاطفيا فيشعر المدرك له بالدهشة، أو النشوة أو الراحة أو يشعر على العكس من ذلك بالنفور والإحباط والقلق أو الفزع.

تخضع التفاعلات البشرية وفق نظرية انتهاكات التوقعات Expectancy violations theory لانتهاك التوقع في السلوك اللفظي، أو غير اللفظي وما ينجم عنه من تقييم إيجابي أو سلبي، باستملاح شيء واستعذابه، مثل الشعور اللطيف بقول مستملح، وقد خرق العادة القولية خرقا مفيدا وموجبا، فالتوقع في قول أبي الطيب (تَركُكَ في الدُنيا دَوِيّا) يكون بالقياس مع مألوف القول (تركك أثرا في الدنيا) أو (تركك في الدنيا ذكرا طيبا) كما في مألوف الخطاب (أو تركك زادا أو مالا أو ولدا)، باعتبار أنّ ما يتركه الميت لا يعدو أن يكون إلاّ ذلك. لكن أن يترك المرء دويّا فذلك ينتهك التوقعات.
يطلق الدويّ في العربيّة على أنواع كثيرة من الأصوات من بينها صوت الريح وصوت المطر وصوت النحل، إن كان ذلك الصوت الصادر منها غير مرتفع؛ وقد يطلق أيضا على صوت الرعد المرتفع، ونعتقد أنّ المقصود هو فعلا الصوت المرتفع، فكلما علا الصوت وارتفع كان وقعه أكثر وسامعوه أوفر. أن يترك الحيّ في الكون دويّا لا يكون إلاّ بذكر الناس له مدحا، أو ذمّا، فهو يفعل وصدى فعله على الأقوال والأسماع يكون ذا مفعول، ولا يترك الناس دويّا، إلا إذا كانوا فاعلين في الكون.

هذه الاستعارة تجمع بين ركنين الفعل والتصويت: الفعل من المصدر، والتصويت من الصدى، الذي يوقعه الناس انسجاما لفعله وحكيا له. يحدث المرء دويّا بعد الموت، وعندئذ يصبح ذاكرة وذكرا معا. يصبح الصوت أثرا وجوديا لموجود أو لمعدوم، وما دام الأثر الوجودي حاضرا بالدويّ، وسواء أكان صاحب الأثر حيا أم ميّتا، فإنّه يكون في عداد الموجودين موجودا بالحديث عن فعله. لا يستعمل الشاعر استعارة غريبة فاستعارة (الإرث صوت) في لغتنا اليومية رائجة فنقول مثلا: (لا يزال صدى فعله يتردد)، أو (ترك صنيعه ضجة كبيرة)، أو (كلامه لا يزال يُسمع). ما ينتهك التوقع في هذه الاستعارة ليس الصوت وصداه بما هو أثر للحي، بل بما هو أثر للميت؛ فعلى الرغم من زوال صوته يظلّ صوته موجودا. لا يخمد الفعل صوتنا بعد خماد حركتنا. بهذه الاستعارة نحن نعيش بعد الموت تعدّدا للحس وليس موتا له. ويكثر تعدّد الحسّ في التشبيه في قول المتنبي في العجز (كَأَنَّما تَداوَلُ سَمعَ المَرءِ أَنمُلُهُ العَشرُ) وفيه ينتقل الشاعر بين المجال السمعي والمجال اللمسي، ويمزج بين الحاستين، في استعارة عميقة يصبح بمقتضاها السمع ملمسا، وكأن الصوت محسوس لمسيّا، يُتناقل بالأصابع، لا بالأذن. ووفق نظرية المزيج التصوري لترنر وفوكونياي نحن إزاء مزج بين فضاءين هما فضاء الصوت (السماع) وفضاء اللمس؛ فأنت لا تسمع هذا الدوي من فم إلى أذن، بل تسمعه بالملامس حسّا فتصبح الأصابع ناقلة صوت وليست ملتقطة حسّ تجعل الأثر أشبه بشيء مادي لا يمكن الإفلات منه. وهذا يُضفي على حضور المتحدث عنه بعد موته نوعا من الخلود المحسوس.

نحن إزاء محاكاة متعددة الحواس Multisensory Simulation وهو نوع من التصوير، أو التمثيل المحاكي يعتمد تفعيل أكثر من حاسّة في الوقت نفسه لخلق تجربة حسية مميزة في البيت الشعري يفعّل السمع (الدويّ) واللمس (تداول الأنامل) والحركة (انتقال السمع بين الأنامل) لتقوية الحضور في الحسي الحركي في الكون عند الخلود. ما يخلق المتعة يمكن أن يكون خارج الكون الشعري باعتباره كونا تصويريا تخييليا جميلا يمكن أن يخلق المتعة والعمق الفكري في القول الشعري نفسه. وهذا العمق الفكري متقاسم بين البشر، فكلما تسرب هذا القول الشعري الذي يصدم فيك التوقع، أو يكسر فيك الألفة كان أذهب في نفسك غورا وأقرب إلى الاستمتاع بالتأمّل والتملّي.
إنّ الإنسان كائن زمني، مدرك لفنائه، لكنه يطمح إلى أن يترك وهو حيّ أثرا في غيره يتجاوز وحدته البيولوجية بالحمل والولادة ويتجاوزها أيضا باللغة: لا التي يقولها فما يقوله المرء قليل ولكن بما يقال عنه بعد غياب عينه ويده ولسانه.
في اللغة طابع جيني ليس كالذي في البشر في الكلام تأتلف العناصر اللغوية وتتعاضد وتتراكب وتخلق دوما وتتوالد ولا تتحلّل كما يتحلّل جسد البشر. ولئن كان الكون الطبيعي إعجازيّ الخلق لا يمكن أن ينشأ إلّا مرّة واحدة، فإنّ الخلق اللغوي يمكن أن يحدث أكوانا في كلّ مرّة يصنع فيها الكلام من جديد. أنت بما أنك موجود في التاريخ لا تقع إلاّ في كون، وتكون فيه مظروفا بالزمان مشمولا بالمكان؛ ولكنّ اللغة التي تتحدّث عنك تكون كونا يسعك ويتجدّد بتجدّد الحديث عنك. صحيح أنّنا حين نخلق نحمل معنا أدوات فناء ومعاول تهدم كياناتنا، ولكنّنا نحمل في فعلنا وفي قولنا وعبر المقاولة اللغوية عناصر خلودنا. حين تحكي عنّي وأنا البعيد بالمكان أو البعيد بالزمان أنت تعيد إنشائي من جديد، بعد أن أكون تحللت. أنت تصنع باللغة عناصر تقاوم الفناء: فنائي ولكن أيضا فناءك.

الخلود ليس بالضرورة فرديا فقط؛ فالإنسان يريد أيضا أن يخلّد قومه، ثقافته، لغته الأم، قضاياه. عندئذ تصبح اللغة وسيلة لحفظ الذاكرة الجماعية، وكأنها خزّان للخلود الجماعي. تصبح الذات وبواسطة اللغة كيانا ممتدّا فالذات ليست جوهرا ثابتا، بل تُبنى وتُصاغ عبر اللغة وتجربة التواصل مع الآخرين وتجربة العيش المشترك وإحياء من هم على قيد الحياة لك بعد أن ترحل. حين يقول الإنسان شيئا، فهو لا يصف فقط، بل يصنع صورة لنفسه. الرغبة في الخلود إذن ليست مجرد طموح وجودي، بل هي امتداد لمفهوم الذات كـ»سردية» مستمرة. الإنسان يرى ذاته كـ»قصة»، واللغة هي الوسيط الذي يُروى من خلاله هذا الامتداد. في النموذج الاستعاري الذي نعيش به، تُفهم الحياة غالبا على أنّها «رحلة»، ويفهم الموت على أنه منتهى. لكن هذه الرحلة لا تكون كاملة إلا إذا تُرك فيها «أثر». ومن هنا، تصبح اللغة وسيلة لترك ذلك الأثر في الطريق وبعد نهايته. اللغة هي ما يبقى من الرحلة بعد أن يتوقف الجسد.
إنّ الذات لا تُبنى فقط من الداخل، بل من نظرة الآخر أيضا ذلك أنّ الذات ترى نفسها في كلام الآخرين عنها؛ فالخلود ليس فقط أن أتكلم، بل أن يُعاد قولي، أن يُتداول اسمي، أن أصبح موضوعا لكلام الغير. اللغة هنا وسيلة لخلق ذلك «الرجع» الذي يبقي الذات حاضرة في أذهان الآخرين. إنّ المجدُ الذي ذكر في إطاره البيت الشعري أعلاه هو نفسه قيمة مبهمة عرفنا في كلامنا اليوم بعص من خصالها هي الخلود عبر الكلام.
أستاذ اللسانيات في الجامعة التونسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب