إسرائيل والعرب في الوقت الضائع

إسرائيل والعرب في الوقت الضائع
لا شك أن العالم يعيش الآن لحظة سيولةٍ فارقة، أتصور أن قلةً قليلةً طاعنةً في السن ربما تكون قد شهدت شيئاً شبيهاً بها إبان ختام الحرب العالمية الثانية، حين تشكل النظام العالمي الجديد عبر مخاضاتٍ وهزاتٍ عديدة، ربما كان أبلغ تعبيرٍ رمزيٍ عنها ذلك «الستار الحديدي»، كما سماه تشرشل الذي فصل العالم إلى معسكرين، شرقي ستاليني، وغربي رأسمالي، والذي استمر تقريباً طيلة ما تبقى من القرن العشرين.
في رأيي أن نهاية الاتحاد السوفييتي نفسها وسقوط هذه الكتلة لم يكن بهذه الدرامية فقد كان وهنه معروفاً، لكل متابعٍ مطلع، وضعف أداء تلك الكتلة اقتصادياً، لم يكن سراً آنذاك بأي حالٍ من الأحوال. كانت النتيجة محددة سلفاً وجلية لكل من لم يختر العماء (أياً كانت أسبابه) ولم تكن أكثر من مسألة وقت؛ لا يعني ذلك أن السقوط بالصورة المفاجئة التي وقع بها لم يكن مدهشاً ولا صادماً، إلا أن مرور السنين إذ يسمح لنا بإعادة النظر في الأمور خاصةً في ضوء ما تكشف من حقائق وتفاصيل (كانت الحكومات الغربية تعرف طرفاً كبيراً منها وإن لم تكن معروفةً للجمهور) كفيلٌ بإقناعنا بأن تلك الكتلة كانت قد سقطت فريسة التحلل والتعفن البطيئين، منذ أواخر ستينيات، أو أوائل سبعينيات القرن الماضي على أقصى تقدير.
كيف أتت الرصاصة التي أجهزت عليها أقل أهميةً في تقديري
تمثل اللحظة الراهنة إعادة المحاصصة، وتقسيم النفوذ وفقاً للأوزان الحقيقية والمستجدة على الأرض، وهي لحظةٌ قد تطول لسنوات كونها تتعلق بأجسامٍ وكياناتٍ بحجم الصين والهند، ذواتي ما يزيد عن المليار نسمة لكل منهما. الفارق في رأيي أنه على عكس الحرب العالمية الأخيرة، فإننا الآن، في ذلك العالم المتخم بأسلحة الدمار الشامل التي تستطيع محو الكوكب تماماً، نرى الصدامات طرفية، خاصةً تلك التي تعبر عن ذلك التغيير في التوازنات، وعلى رأسها حرب أوكرانيا التي قد نرى فيها دليلاً على أن كلمة أمريكا والغرب بصفةٍ عامة، لم تعد الأخيرة ولا الفاصلة ولا حصارها بقادرٍ على زعزعة، ناهيك من، هزيمة دول الشرق العملاقة، التي تطالب بما تراها حصتها المستحقة التي تلائم أوزانها الحقيقية المتعاظمة. نحن في مرحلة إعادة التشكل، أو الوقت الضائع بالنسبة للنظام العالمي القديم المحتضر.
لا أعرض كل ذلك من منطلق التسلية وإنما لانعكاساته على منطقتنا وقضايانا، التي لم تحل، بل لم نحرز فيها أي تقدم على الإطلاق طيلة الفترة السابقة، وفي الصدارة منها قضية الصراع العربي الإسرائيلي، كونه يختزل ويعبر ويعكس كل إشكاليات عالمنا العربي. أزعم أن الطرفين يدركان الطبيعة الانتقالية لهذه المرحلة، لكن أسلوب تعامل كل منهما معها مختلف، بل يتباين عكسياً مع الآخر. من ناحية تضطلع إسرائيل بدور «الفاعل» باقتدار؛ هي تدرك تماماً فكرة «الوقت الضائع»، وأنا على يقين أن مفكريها ومنظريها يحسبون حساب الآتي، لكن في أثناء ذلك، فإننا نرى تحركاتٍ تذكر بحرب الأيام الستة، لكن في سياقٍ مختلف. آنذاك كانت إسرائيل هي المبادرة؛ هذه المرة كانت تقوم «بهجمةٍ مضادة»، إلا أنها استغلتها بمهارة مستفيدةً من الضعف العربي، المهزوم تماماً والمتواطئ والذليل، وانشغال أمريكا بصراعها مع الشرق الصاعد الذي يستهلك جل طاقاتها. لقد قبل الغرب، المتبني الأول للمشروع الصهيوني، بحجج الدفاع عن حق إسرائيل في البقاء، الذي اتخذ ذريعةً لحملة تصفيةٍ همجية ودموية للشعب الفلسطيني وأدار وجهه (في تكرارٍ لما حدث في حرب 67) عن مصادرة واحتلال المزيد من الأراضي العربية، ومثال ذلك الصارخ هو التوسع في الجولان.
استغلت إسرائيل الظرف في هجمتها المضادة، لتخرج إلى حيز التنفيذ مشاريع الرؤى الصهيونية، التي كانت مودعةً في أدراج مغلق عليها، فساستها وعسكريوها يريدون أن يفرضوا على العالم واقعاً بإسرائيل أكبر
لقد استغلت إسرائيل الظرف في هجمتها المضادة، لتخرج إلى حيز التنفيذ مشاريع الرؤى الصهيونية القصوى، التي كانت مودعةً في أدراج مغلق عليها، فساستها وعسكريوها يريدون أن يفرضوا على العالم الجديد الذي يتشكل أمراً واقعاً بإسرائيل أكبر، مطهرةٍ عرقياً بالفعل. في المقابل، فإن ما يسمى بالعالم العربي تبدو أنظمته قانعةً تماماً بدور «المفعول به»، يراقب قادتها الأحداث منتظرين ما ستتمخض عنه وكيف سينعكس عليهم وسيتأثرون به. هم مهزومون مستسلمون تماماً للهزيمة.
كل طرفٍ يحاول إنقاذ جلده وما يراها مصالحه القومية الضيقة ما أمكن، فالسيسي على سبيل المثال لا يرى مشكلةً ولا غضاضةً في طرد سكان غزة وإجلائهم وإعادة توطينهم في النقب: المهم ألا يُدفع بهم إلى الحدود المصرية، ومن البديهي أنه لا يصدر عن أي حرصٍ ولو ضئيلٍ على القضية الفلسطينية (وإن سيق ذلك كمبررٍ بطبيعة الحال) بل من حرصه على استقرار نظامه لا أكثر.
للأسف، حتى وقت كتابة هذا المقال لا يبدو في الأفق أي شواهد لمبادرةٍ عربية لوقف ذلك الانهيار، أو عكس التيار، ناهيك من حراكٍ شعبي يفرض عليها، أي حراك. لا بد أن أعترف بأنني وصلت إلى قناعة بأن المخرج من مأزق التاريخ هذا والذي فرضته علينا، متواطئةً على هزيمتنا والتفريط في حقوقنا، تلك الأنظمة التي لم تنجح في شيءٍ قدر نجاحها في القمع وإعدام المجال العام، لن يأتي سوى مفروضٍ عليها، كأن تحرجها إسرائيل وتفرض عليها رد الفعل في لحظة جنونٍ وخروجٍ عن النص أو المقبول، كتحرشٍ عسكريٍ مهينٍ ومفضوح.
كاتب مصري