مقالات

معضلة الحرب الأخيرة: حزب الله أمام أزمة ذهنية أم انكشاف تكتيكي؟

معضلة الحرب الأخيرة: حزب الله أمام أزمة ذهنية أم انكشاف تكتيكي؟

علي نذر

أنهيتُ كتابة مقالي هذا قبل أن ينشر أسعد أبو خليل مقاله «مراجعة نقديّة لتجربة حزب الله السياسيّة والعسكريّة» فأحببت كي لا أكرر بعض الأمور أن أتصرف بمقدّمته وأستعين بها: «ليست هذه مرثيّة لحزب لا يزال موجوداً بقوّة، وليست هذه دعوة لمحاسبة مَن دفعوا من دمهم ومالهم وسكنهم ثمناً للمواجهة مع إسرائيل. هذه دعوة للمصارحة من قِبل كلّ المهتمّين لأنّ غير قرن من النِّضال لم يقرّبنا من فلسطين…».

ورغم أن ما جرى كبير، وكبير جداً، لكنه يبدو وإلى الآن لم تصدر نتائج أي تحقيق حقيقي علني من قبل حزب الله يحاكي المشاكل الواقعية التي أدّت إلى ما وصل إليه الحزب في ما يرتبط بالحرب وتبعاتها القائمة إلى اليوم! بعد كل الذي حصل ويحصل، ليس معلوماً إن كان من الطبيعي أصلاً أن تتأخر نتائج التقييمات العسكرية أو التنفيذية لا أقل إلى الآن! بل لعل تأخّر النتائج إلى الآن هو بنفسه مشكلة قد تعكس ما يمر به الحزب.

حين انتكس المسلمون في المعركة الثانية بعد قيام دولتهم، أي معركة أحد، حاول بعض رؤوس المسلمين التنصل من ما حصل أو لا أقول التشكيك أو تمييع ما حصل بأسئلة قد تُعد طبيعية بريئة: «قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا»! إلا أن الله حينها خاطبهم حازماً جازماً: «قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ».

يتكرر موقف «أُحد» وتتكرر الأحداث نفسها على مدار التاريخ مع المسلمين، الذي أراد الله لهذه التجربة أن تصيبهم في بداية نشأتهم وتشكّلهم! لكن الأسوأ هو استخدام العقل الديني بطريقة سلبية، وأقصد به العقل الديني التبريري، خاصةً أن النص حمّالٌ ذو وجوهٍ كما ذكر الإمام علي بن أبي طالب لابن العباس حين أوكل إليه مُحاجَّة الخوارج، فإذا لم يُضبط النص الديني ضمن إطار عقلي، فسيحمل أي نص متشابهٍ على أي معنى.

هذا المقال وإن كان دعوة نحو تحمّل المسؤولية بشكل جدي إلا أنه لا يعني استباق نتائج «التقييم». وهذا المصطلح، أي «التقييم»، وقد بات منتشراً كمصطلحٍ مخفّفٍ عن مصطلح «تحقيق»، الذي يبدو أنه يجري اعتماده وترويجه -عن قصدٍ كما يبدو- لا يبشّر خيراً، فمسار التحقيق إن بدأ بمجاملات لفظية فإنه لن ينتهي إلا بمثل ذلك أيضاً.
كما أن الاتّكال على تفسير الذكاء الاصطناعي أو التدخّل الأميركي إلى جانب إسرائيل يمكن أن يحوِّر الموضوع ويخفّف من المسؤوليّة الذاتيّة. ولا يعني ذلك عدم تدخّلهم، بل إن الأكيد هو تدخلهم، لكن ليس من السليم أن نكرر تجربة الإعلام المصري بعد الهزيمة في عام 1967 حيث أفرط في الإصرار على التدخّل الأميركي العسكري المباشر مع إسرائيل كوسيلة لتحوير المراجعة والنقد الموضوعي.

إنّ الجماعات والدول على امتداد التاريخ التي حاولت التهرب من تحمل مسؤوليتها بشكل حقيقي من خلال إجراء تحقيقٍ موضوعي أو مصارحة ذاتية ولو كانت سلطنة كبيرةً كالعثمانية -وهي التي امتدت عقوداً ووسعت قاراتٍ- ستنتهي. يذكر التاريخ في معركة إينه باختي، أي «الحظ العاثر»، كما سمّاها العثمانيون -وهي معركة «ليبانتو» البحرية التي وقعت في 7 أكتوبر 1571 بين العثمانيين ومجموعة من الدول الأوروبية – أن القادة والجنود العثمانيين أبرزوا بسالةً عاليةً، فقد خاطب «برتو» قادته وجنوده رغم ترجيح الكفة للدول الأوروبية: «إنني لا أخشى على منصبي ولا على رأسي، إن الأوامر الواردة تشير إلى الهجوم، لا ضير من نقص خمسة أو عشرة أشخاص من كل سفينة، ألا توجد غيرة على الإسلام؟ ألا يُصان شرف البادشاه؟!».

وقد انتهت المعركة بخسائر فادحةٍ (عشرات السفن، استيلاء على 117 مدفعاً كبيراً، و256 مدفعاً صغيراً، والأهم سقوط حوالي 17 ألف قتيل، يُضاف إليهم 3460 أسيراً، ومن بين الأسرى 3 برتبة لواء بحري، وقد حاز الصليبيون راية مؤذنزاده علي باشا الحريرية المطرّزة بالذهب – أعادها بابا روما إلى تركيا سنة 1965). عرضتُ الخسائر بشكل موجز لأقول إنه وبالرغم من كل ما حصل ينقل أندرو هويتكروفت في كتابه المترجم تحت عنوان «تاريخ الصراع بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي» حول نفس الحادثة: «ساد هناك الحزن على كارثة ليبانتو واعتبرت مشيئة إلهية. فقد كتبت حولية (جريدة أو ما يشاكلها) معاصرة عن المعركة بشكل مقتضب أن الأسطول السلطاني واجه أسطول الكفار الملاعين وشاءت إرادة الله أمراً آخر». ثم يكمل: «ولم يكن من تقاليد العثمانيين أن يعاقبوا أنفسهم بذكرى الهزيمة. كان النصر أو الهزيمة أموراً بيد الله».

وبعد قرنين وزيادة، ينقل الأرشيف العثماني الرسمي أن السلطان محمد الخامس (1844–1918) أجاب معلّقاً على الهزيمة في إحدى المعارك: «إن النصر مؤجّل لحكمة إلهية، والمحن التي نمر بها هي اختبار لصبر الأمة الإسلامية… الدولة ستبقى حصن الإسلام، مهما اشتدت الخطوب»، مقرناً ذلك بدعاية إعلامية، إذ ورد حينها في صحيفة «تقويم وقائع» التابعة للسلطنة العثمانية نص يقول: «إن ما نمر به من محن هو ابتلاء من الله تعالى، وعلى الأمة الإسلامية أن تتحلى بالصبر والثبات، فالنصر قادم بإذن الله».
يقول جمال الدين الأفغاني، في إحدى خطبه، واصفاً العثمانيين: «يُهزمون ويبررون، يفقدون الأرض ويتعللون بالسماء. ما جعل الله مصير أمة إلا بيدها. إن عملت وسعت وطلبت العلم ملكت الدنيا، وإن نامت وتعللت بالقدر، ضاعت وأكلتها الأمم».

لا يهدف هذا المقال إلى إجراء مقارنة موضوعية مع واقعنا الحالي، بل يهدف إلى تسليط الضوء على التاريخ، بغية أخذ العبر والتنبّه، والجدير بالذكر أنه من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن السلاطين العثمانيين لم يجروا أي إصلاحات عملية كبيرة، بل وبتتبع السقوط العثماني وما قبله يمكن ملاحظة الكثير من الإصلاحات المعروفة بـ«فرمان الكلخانة»، أو فرمان التنظيمات، إلا أن نتيجتها لم تكن على قدر مسؤولية بقاء السلطنة «المقدسة».

الآن وبعد مضي وقتٍ على سقوط الدولة العثمانية، بتنا نستطيع القول إن هذه الإصلاحات لم تكن كافيةً، لعل كثيراً من الناس في ذلك الزمان كانوا يظنون كفايتها لأهميتها وكثرتها (أحدها التنظيمات التي أقرت على يد الخط الشريف لكلخانة 1839 م والتي تضمن بنوداً عديدة) إلا أنها لم تكن كذلك، فكيف يمكن أن تكون والسلطنة تقيم نفسها بنفسها وتورث حكامها من رعيلها! أي حلول نهضوية جذرية سوف تُبتكر!

قبيل سقوط العهد العثماني بأقل من قرنٍ تقريباً يُنقل عن اجتماع بين القيصر الروسي نيكولا الأول والسفير البريطاني في بطرسبرغ قوله واصفاً السلطنة العثمانية: «لدينا رجل مريض للغاية، إنه مريض وخطير، وقد يموت فجأة». الخطير في هذا النقل، هو حين ملاحظة الأعداء الثغرات بموضوعية قبل الأصدقاء والأمناء. فلقد تبيّن بالتجربة الأخيرة أن الله لا يستثني أحداً من قواعد النصر والهزيمة!

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب