مقالات

تسجيل صوتي لجمال عبد الناصر… لا جديد!

تسجيل صوتي لجمال عبد الناصر… لا جديد!

رامي منصور

لا جديد في تصريحات عبد الناصر، بل هي توثيق لتاريخ معروف، وأتت ردا على  مزايدات نظام عربي ضد نظام شقيق * لم يكن موقف وسلوك عبد الناصر من باب الاستسلام أو الانهزامية، بل كان عن وعي وإدراك لقدرات أطراف الصراع.

ظهر مؤخرًا تسجيل صوتي منسوب للرئيس جمال عبد الناصر يوثق حديثًا له بحضور معمّر القذافي وآخرين بعد حرب حزيران 1967، يبدو فيه محبطًا جدًا من القادة العرب ومزايداتهم، وخصوصًا من العراق وسورية والجزائر واليمن الجنوبي، ويقول إن من يريد أن يحارب ويحرر فلسطين فليحارب، ولكن مصر لن تحارب، وأن الخطر الحقيقي هو احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، لأن مصر ستحرر سيناء من الاحتلال الإسرائيلي، وأن تكرار مقولة تحرير كل فلسطين من النهر إلى البحر، هكذا وصفها حرفيًا، هي شعاراتية ستؤدي إلى خسارة الضفة وغزة كما خسر العرب أراضي 48 في ظل المزايدات بين قادتهم عشية وخلال تلك الحرب.

ولا بد من توضيح سياق التسجيل؛ يظهر على التسجيل أنه من يوم 3 آب/ أغسطس 1970، أي بعد أسابيع من طرح وزير الخارجية الأميركي وليام روجرز مبادرة ثانية لهدنة مؤقته بين مصر وإسرائيل والشروع بمفاوضات للتسوية السياسية، وذلك في أعقاب حرب الاستنزاف المصرية ضد الاحتلال الإسرائيلي في سيناء (1967 – 1970). وقبلت مصر المبادرة وكان من المقرر أن يبدأ وقف إطلاق النار في ليل السابع – الثامن من آب/ أغسطس.

وفي الأسبوع الأول من ذاك الشهر (آب/ أغسطس)، استقبل عبد الناصر القذافي مرتين في مصر: في طريقه لزيارة بغداد ودمشق (3 آب)، ولدى عودته (4 آب)، ثم استضاف القذافي مؤتمرا لدول المواجهة في طرابلس على مستوى وزراء الخارجية والدفاع (5 آب)، تنفيذا لقرار القمة الأخيرة على مستوى قادة هذه الدول في طرابلس يومي 21 – 21 حزيران/ يونيو 1970.

صحيفة “الأهرام”، 3 آب/ أغسطس 1970

في تلك الفترة وعلى خلفية تجاوب عبد الناصر مع مبادرة روجرز لوقف الحرب والتفاوض، فتح نظام البعث العراقي حربا دعائية ضد عبد الناصر واتهمه ببيع شرف الأمة. وقد تبادل الرئيس العراقي أحمد حسن البكر وعبد الناصر الرسائل ونشرت في وسائل الإعلام. وخلال مؤتمر طرابلس واجه عبد الناصر البكر وقال له إن ما يقوم به الرئيس البعثي هو مناورة حزبية داخلية. هذا سياق التسجيل. مبادرة روجرز ومزايدات النظام البعثي في العراق.

حديث عبد الناصر للبكر في طرابلس (جريدة الأهرام، 6 آب/ أغسطس 1970)

موقف عبد الناصر كما ظهر في التسجيل المنسوب إليه ليس جديدًا أو مفاجئًا، وذلك للأسباب الآتية:

أولًا، لا بد من توضيح؛ لم يُطرح تحرير فلسطين قبل العام 1967 وبعده ولا مرة بصورة عملية، ولم تكن حرب 1948 لتحرير فلسطين، أبدًا، وهذا معروف ومُعلن، بل إن العرب خاضوا حرب 1948 في سياق منافسة العروش الملكية، في مصر والأردن والسعودية والعراق، على النفوذ، وللسيطرة على الجزء العربي من فلسطين كما حدده قرار التقسيم لعام 1947.

كانت أولوية العرش الأردني بسط سيطرة الفيلق العربي (الأردني) بقيادة غلوب باشا البريطاني على المناطق المحددة للدولة العربية وفق قرار التقسيم، أي الضفة الغربية والقدس الشرقية ومنطقة اللد والرملة، وكذلك النقب رغبةً في توفير منفذ للأردن إلى البحرين الأبيض (غزة) والأحمر (أم الرشراش).

وكان طموح العرش المصري السيطرة على مناطق في النقب التي حددها قرار التقسيم كجزء من الدولة العربية، فيما رغب الملك عبد الله بعدم نشوء حدود مصرية – أردنية مشتركة في جنوبي فلسطين.

لكن خلال الحرب تجاوزت القوات الصهيونية حدود قرار التقسيم. وكان الاتفاق الأردني – البريطاني – الإسرائيلي قبل الحرب أن يتولى الأمير، ولاحقًا الملك الأردني عبد الله، بسط نفوذه السياسي والعسكري على المناطق المخصصة للدولة العربية وفق قرار التقسيم وضمها لعرشه، لتشكل مناطق غرب وشرق نهر الأردن ما بات يُعرف لاحقًا بالمملكة الأردنية الهاشمية. وقد فعل البريطانيون والصهيونيون ذلك ليس حبًا بالعرش الأردني، بل لمنع نشوء أي كيان سياسي فلسطيني في الجزء العربي من فلسطين حسب قرار التقسيم، ومحو الهوية الفلسطينية.

وقد دخل أصحاب العروش الحرب وهم على علم بهذا الاتفاق، واختاروا الملك عبد الله قائدًا للقوات العربية، وعمّان مقرًا للقيادة المشتركة. وكان في علم أصحاب العروش أن الفيلق العربي – الأردني بقيادة غلوب باشا هو الطرف العسكري الأقوى من بين القوات العربية، والأكثر تنظيمًا وتدريبًا وتجربة، إذ شاركت هذه القوات في العملية البريطانية لإسقاط الحكومة الانقلابية برئاسة رشيد عالي الكيلاني في العراق عام 1941 (أو ما يُعرف بالحرب البريطانية – العراقية)، وكذلك شاركت القوات الأردنية في طرد القوات الفرنسية من سورية بعدما أعلنت ولاءها لحكومة فيشي في فرنسا بعد الاحتلال النازي.

ودخلت القوات العربية الحرب، وليس الجيوش لأنها لم تكن تقوم على مقومات جيش حقيقية، وهي أقل عددًا وعدّة من القوات الصهيونية. فالقوات الأخيرة كان عديدها بحسب يوميات الحرب لبن غوريون تجاوز 108 آلاف مقاتل وضابط في أواسط العام 1948، والمئات منهم تمرّسوا في القتال خلال مشاركتهم في الجيوش الغربية خلال الحرب العالمية الثانية.

وفي دراسة للدكتور محمود محارب عن القوات الصهيونية في تلك الفترة، يذكر أنه ارتفع عدد تلك القوات في العام 1949 إلى نحو 116 ألفًا بعدما استقدم بن غوريون مئات الطيارين والجنرالات اليهود المتمرّسين في الجيوش الغربية، وكانت لهم المساهمة الأبرز في القوة الصهيونية. (للاستزادة: محمود محارب، جاحل وماحل: المجندون من خارج البلاد للجيش الإسرائيلي في حرب عام 1948، دورية “أسطور” للدراسات التاريخية، العدد 22، شباط/ فبراير 2025، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات).

أما عديد القوات العربية ففي أحسن تقدير لم يتجاوز الخمسين ألفًا، هذا عدا عن أنّ خط الإمداد بالأسلحة على أنواعها كان مفتوحًا للقوات الصهيونية، فيما كانت الجيوش العربية تعاني من النقص في الإمداد.

إذًا، لم يدخل أصحاب العروش الحرب في عام 1948 لتحرير فلسطين، وهذا معلن وموثّق ومعروف، بل دخلوا للسيطرة على الجزء العربي من فلسطين كما حدده قرار التقسيم، أي نشر قوات عربية، وتحديدًا أردنية، في المناطق المخصصة للدولة العربية وفق قرار التقسيم. وكان ذلك بموافقة بريطانيا العظمى.

وكان موقف مفتي القدس أمين الحسيني حينذاك برفض دخول القوات العربية لفلسطين، بل طالب بإقامة معسكرات تدريب للمقاتلين الفلسطينيين على الحدود، وتزويدهم بالسلاح، وكان مقدرًا أن الجيوش العربية غير قادرة على هزيمة القوات الصهيونية، وأن أصحاب الأرض والبلاد بمقدورهم مواجهة القوات الصهيونية إذا ما جرى تزويدهم بالسلاح وتدريبهم. ويبدو أن المفتي أدرك أن ذلك يستهدف منع قيام كيان سياسي فلسطيني أو حكومة فلسطينية مستقلة في الجزء العربي من فلسطين.

ولا اكتشاف في ما ذكر أعلاه وتاليا، وكل ذلك موثّق بالتفصيل في أعمال محمد حسنين هيكل “العروش والجيوش” (1998)، و”المفاوضات السرية بين العرب وإسرائيل – عواصف الحرب وعواصف السلام” (1996)، وفي أعمال تاريخية لمؤلفين آخرين.

ثانيًا، عندما أطاح الضباط الأحرار بالملك فاروق ومن ثم تولي عبد الناصر الحكم، استمر الهاجس أو القلق المصري من الخطر الإسرائيلي على مصر، وليس مسألة تحرير فلسطين. كان القلق المصري منذ فترة الملك، ولاحقًا في زمن عبد الناصر، من الخطر الإسرائيلي على الأراضي المصرية، إذ قامت قوات إسرائيلية في نهاية العام 1948 بدخول الأراضي المصرية، أي سيناء، لعدة أيام، وصولًا إلى العريش، وانسحبت لاحقًا بضغط من الرئيس الأميركي، هاري ترومان، ومن بريطانيا.

كما أغارت طائرات إسرائيلية على القاهرة خلال حرب 1948 وبعثت بذلك رسائل تهديد للملك فاروق. واستمر هذا التهديد خلال سنوات الخمسين باجتياح قطاع غزة والسيطرة على مناطق وصولًا لحرب السويس عام 1956.

تولى عبد الناصر الحكم وهو قادم من هذه الخلفية التاريخية وهذا الهاجس، وكان يعلم، وهو من شارك في حرب 48، أن الحرب لم تكن لتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، بل كانت عمليًا بهدف السيطرة على الأراضي المحددة للدولة العربية في فلسطين وفقًا لقرار التقسيم، الذي خرقته إسرائيل خلال الحرب وبعدها. ويذكر بالتسجيل تلك الحرب، عندما قال إن العرب وافقوا على هدنة مع إسرائيل في العام 1949.

كذلك انكشف عبد الناصر مع تمرّسه بالحكم على أن المسألة تتعلق بموازين القوى الدولية، وليس مجرد رغبة وإرادة؛ فزمانه كان بداية هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي، حتى في ظل وجود قوة عظمى مثل الاتحاد السوفياتي، فقد ورثت الولايات المتحدة نفوذ بريطانيا العظمى وشهيتها منفتحة على مد نفوذها في أنحاء العالم بمنطق تجاري رأسمالي، وما بات يعرف لاحقًا بالتجارة الحرة.

كان عبد الناصر يدرك منذ حرب 1948 أن المسألة ليست قرارًا باحتلال تل أبيب مثلًا، فبمقدور القوات المصرية في تلك الحرب تحقيق ذلك، لكن قرار القوى الدولية المهيمنة لا يسمح به. بل إن ذلك قد يؤدي إلى فعل معاكس، وهو احتلال إسرائيل أراضيَ مصرية كما حصل في حرب السويس (1956)، وقبلها وبعدها.

أما باقي الأنظمة، من سورية إلى العراق إلى ليبيا، فهي لم تطرح حقيقة تحرير فلسطين من النهر إلى البحر بشكل واقعي، ولم تضع الخطط والقوات والقدرات لتنفيذ ذلك، ويصدق عبد الناصر بوصفها إنها شعاراتية. حتى مشاركة القوات العراقية والسورية واللبنانية في حرب 48 فقد كانت محدودة جدًا.

ثالثًا، بحسب التسريب الصوتي المنسوب لعبد الناصر، جاءت تصريحاته خلال حرب الاستنزاف ما بين العامين 1967 – 1970، أي أن الرجل لم يستسلم بعد هزيمة 1967، بل باشر بحرب من نوع آخر مباشرة، وبدأ يعد لحرب هجومية مفاجئة كما حصل في حرب 1973 في عهد السادات، لكن فكرة الحرب والبدء بالاستعداد لها كانت في عهد عبد الناصر.

ينضاف إلى كل ذلك، أن عبد الناصر تجاوب وتعامل بإيجابية مع مبادرات للتسوية مع إسرائيل وأبرزها مبادرة وزير الخارجية الأميركي روجرز (1970)، وكانت إسرائيل هي التي ترفض التفاوض وتماطل. بل اهتز الائتلاف الحكومي الإسرائيلي حينذاك بعد قبول غولدا مئير مبادرة روجرز نتيجة ضمانات وضغوط أميركية، فانسحب بغين من الائتلاف.

صحيفة “الأهرام”، 8 آب/ أغسطس 1970

لم يكن موقف وسلوك عبد الناصر من باب الاستسلام أو الانهزامية أو التفريط، بل كان عن وعي وإدراك لقدرات كل الأطراف وموازين القوى العالمية. وقد دفعته الشعبوية والمزايدات في السابق، الداخلية والخارجية، في التورط فيها فعلًا، وإلى سوء التقدير، وإلى التورط في حرب حزيران 1967 التي أرادها تصعيدًا محسوبًا يمنع عدوانًا إسرائيليًا على سورية ويفتح أفقًا سياسيًا، لكنها تدحرجت إلى حرب لأن إسرائيل كانت تريدها، ومستعدة لها منذ فترة.

لم تُطرح مسألة تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ولا مرة من الأنظمة العربية، وطرحتها حركة فتح مع تأسيسها أواسط الستينيات، لكن بعد نحو عقد تبنّت برنامج النقاط العشر والحل المرحلي (1974)، وطرحت مسألة إقامة السلطة الوطنية الفلسطينية – أي الحكم الذاتي – على أي منطقة فلسطينية محررة، ولو في أجزاء من الضفة الغربية إلى جانب دولة إسرائيل، ولاحقًا في العام 1988 اعترفت بالقرار الأممي 242 الذي يعني اعترافًا بحدود 1967، أي اعترافًا بإسرائيل، والاستعداد للتفاوض على 22 في المئة من فلسطين التاريخية.

لا جديد في تصريحات عبد الناصر، بل هي توثيق لتاريخ معروف، وأتت ردا على مزايدات نظام عربي ضد نظام شقيق بمسألة فلسطين وقبول مصر وقف إطلاق النار والتفاوض مع إسرائيل؛ فقد كان عبد الناصر يعلم، كما قال بالتسجيل أن السلام مع إسرائيل بعيد المنال، وأن إرادة أميركية جدية فقط، بمقدورها تغيير هذا الوضع. أبدى استعداده للتفاوض لكنه كان يعد للحرب الكبيرة – حرب 1973 – حرب تحرير سيناء.

ولا جديد في مزايدات أصحاب العروش بين بعضهم البعض، فمنذ حرب 48، مرورا بالستينيات والسبعينيات، وصولا لحرب العراق (1990 – 1991) وليومنا هذا، لم يتبدل أي شيء في سلوك هؤلاء سياسيا بكل ما يتعلق بفلسطين وغيرها. ولم يكن مطروحا في أي يوم تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، لا في حرب 1948، ولا بعدها.

تسجيل صوتي لعبد الناصر:

تسجيل صوتي للقذافي:

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب