منوعات

الغول والعرافة: هل صارت مواقع التواصل تحدد العلاقات السياسية والاجتماعية في تونس والجزائر؟

الغول والعرافة: هل صارت مواقع التواصل تحدد العلاقات السياسية والاجتماعية في تونس والجزائر؟

غادة بوشحيط

من عقود أصدر الكاتب الفرنسي الكبير ريجيس دوبريه كتابا مميزا حمل عنوان «حياة الصورة وموتها»، غاص في مقدرات المفكر الألمعي والمناضل الملتزم في مفهوم الصورة في سياقات كثيرة، وربطها بأبعاد الحياة المعاصرة، نفعية ونمطية، مضطرون لاستحضارها اليوم في ندرة قراءة متأنية لعالم تكتب الوسوم والهاشتاغات واقعه، لم يعد للخبر فيه مساحة أمام فضاءات الجدل، ندرة علق عليها البيروفي «فارغاس يوسا» -الذي غادر حديثا- في عمله ما قبل الأخير «الرياح» ساخرا من العالم كما تركه عليه، فائض تكنولوجيا، جامعات تغلق، وتخصصات تنصهر كالطبخ واللغات. شيء من العرافة ربما، أو الاستبصار، لكان علق رواد مواقع التواصل الاجتماعي الأكثر انغماسا في مطالعة الأدب في المنطقة المغاربية، لكن انشغالهم مسلط منذ أكثر من أسبوع على «إعادة قراءة التاريخ»، و»محاكمة النوايا».

محاكمة على محاكمة

يحضر المارد والجني وكل الكائنات الغريبة التي يزخر بها التراث المغاربي عامة تحت تسمية «الغول» غالبا، وإن كانت نسخته المؤنثة (الغولة) أكثر انتشارا. لكن «الغول» الذي يخلب لب التونسيين من رواد مواقع التواصل الاجتماعي منذ أكثر من أسبوع دون أن يكل هو فيلم قصير يحمل عنوان «دبوس الغول، تفاحة الحب»، من إخراج التونسي فارس نعناع، في اقتباس لعمل أدبي للتونسي علي الدوعاجي، مولته وزارة ثقافة البلد، وحظي بثناء أهل المجال، قبل أن «تحال أوراقه لفضائل شيوخ المحاكم الافتراضية الشعبية».
الفيلم القصير الذي لا تتعدى دقائق عرضه الربع ساعة، يناقش بكثير من السخرية قضايا تونسية من أوضاع اجتماعية، إلى أخرى بيئية، وظروف اقتصادية، مستحضرا أسطورة الخلق «بحذافيرها»، ويبدو أن تلك «الحذافير» (مقطع محاكمة في الفيلم) هي ما يثير «عاصفة هوجاء» مريبة في بلاد الياسمين. الجدل الذي تسبب فيه فيلم «نعناع» -ووصل حد الدفع ببطله «محمد مراد» لتقديم اعتذار-لم يترك شخصية عامة ولا «خاصة» دون استثارة، تحول سريعا إلى مواجهة بين عوام يعيدون مناقشة حدود الفن الابداعية، ومثقفين ملتزمين ينددون بالحملة المسعورة التي تريد النيل من الفيلم، تيارات سياسية تصفي حساباتها في ما بينها، بل نقاشات (فيها شيء من الحدة) ما بين قطرية. «تجرأوا على تصوير الذات الإلهية والأنبياء»، «استخفاف وقلة تربية»، «صدمت، إنه عار»، «الواجب سجنهم»، «أين هي الرقابة»، كانت شيئا من التعليقات المناوئة للفيلم، بل ذهب أصحاب الصفحات الكبيرة ومن يعدون متابعين كثرا (ولم يكونوا ليفوتوا مثل هذه الفرصة) حد التشكيك في نوايا طاقم العمل: «بدأت تتضح ملامح المؤامرة»، «هذه هي تونس التي يريدون، لا مكان فيها للدين». بعض المحسوبين على التيارات الإسلامية سارعوا للانقضاض على معارضيهم: «هكذا قلتم أن النهضة هي من تتحكم بالسينما في البلاد؟»، «الغنوشي يحارب الفن؟». شعبية التريند جعلت موضوعه يفلت من قبضة التونسيين ويتحول إلى قضية رأي عام عربية، حيث لم تتخلف جنسية يتيمة عن التعليق على: «تراجع الدين» في بلاد الياسمين: «يحتاجون فتوحات جديدة»، «يذهبون بعيدا»، «لماذا لا تتم معاقبة الفاعلين»، «ليسوا بشرا»، «»هذه تونس الحرية والعصرنة»، البعض تداول مقولة للمحامي التونسي الذي سجن قبل خروج مقطع الفيلم هذا أحمد صواب، الذي كان نسب له بعض المدافعين عنه مقولة: «عدم التفريق بين المعنى الحقيقي والمجازي قد يقود الجميع إلى السجن». وكان الرجل قد نال حملة تعاطف واسعة بعد ما وصفه كثيرون بالليلة المشؤومة، والانقلاب التالي على الثورة، إذ أدت حملة اعتقالات ومحاكمات «سريعة جدا» لبعض المعارضين التونسيين إلى حالة من الغضب الواسع أنزلت كثرا إلى الشارع للتنديد والمطالبة برأس الرئيس «قيس السعيد».

فائض تريندات

على السوشيال ميديا في الجزائر شيء من الديمقراطية، لا لسقف حرية المنطوق، بل لفائض التريندات والوسوم، ثم فالتريند الأوحد يكاد ينعدم، وحياة الواحد لا ترتبط بموت الثاني. هكذا ينتقي الجزائري ما يريد أن يسلب عقله وجوارحه ويعيش معه الوقت الذي يريد. زواج مشاهير السوشيال ميديا، طلاق آخرين، كباش عيد مهاجرة، عداوات عابرة للأوطان، تعبئة عامة… لكن، ومن بين الوسوم الكثيرة بدا هاشتاج «عمي تبون لا تذهب إلى العراق»، مثيرا لا للقلق فقط، بل للتساؤل، والاستغراب، بل وللسخرية أيضا.
تتنوع القضايا التي يتناولها الجزائري على مواقع التواصل الاجتماعي ما يجعل السياسي يتساوى في شحذ الانتباه مع الرياضي، والحربي وحتى عوالم الطبخ والأزياء. لم تمر ساعات على تلقي الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون دعوة لحضور القمة العربية المقبلة المقررة في بغداد، حتى انطلق الوسم، وانشغل بالتفاعل معه رواد مواقع تواصل كثر، بل وصل الأمر بالبعض حد نشر فيديوهات، متعللين بتجارب سابقة في علاقة الجزائر مع العراق. لم يشفع البغدادي شيخ الطريقة القادرية، الذي تلهج الألسن بذكره ولو غناء، ولا «صدام» الذي يعيش كبطل شعبي في مخيلة البلد للمتفاعلين، الذين استذكروا بكثير من التأثر مرض الرئيس بومدين الغريب الذي أفضى لموته سريعا، والذي أصابه إثر زيارة للعراق (حسبهم)، كما حادثة مقتل محمد الصديق بن يحيى والوفد المرافق له إثر سقوط الطائرة التي كانت تقلهم في رحلة عودة للبلد إثر مهمة وساطة ديبلوماسية، والتي لا يزال الغموض مسيطرا على تفاصيلها، تبريرات كافية لرواد مواقع التواصل الاجتماعي حتى يتجنب رئيسهم الذهاب إلى البلد المضيف. «ابق هنا، هم من عليهم القدوم»، «عشنا الخديعة سابقا»، «نسأل الله الحفظ من كل شر»، «جد عذرا وتراجع عن الذهاب». المتسائلون حول «أصل وفصل» هذا التريند عادوا حسب ما تردد لنبوءة عرافة عربية، تكهنت بموت زعيم عربي «محبوب» بعد قمة بغداد، وطبعا «لم يكذب الجزائريون خبرا».
لم يلق الوسم ترحابا مطلقا، بل عبر كثر عن غضبهم: «من أطلق التريند يريد عزل الجزائر عن محيطها العربي»، «إنهم يسيئون للرئيس بمثل هذه التصرفات»، «يتابعون مشعوذة»، «وسم مقاهي»، «لما يتسببون لنا بالإحراج هكذا»!
بعيدا عن إثارة الجدل حظي برنامج «بودكاست» خصص حلقات للسياسية الجزائرية والمناضلة اليسارية لويزة حنون انتشارا واسعا ومتابعة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، بعيدا عن الاستقطاب التقليدي ولا الحملات المحمومة التي ينصبها أتباع هذا التيار السياسي أو ذاك بالعادة. قصت السيدة السبعينية محطات من تاريخها الشخصي والسياسي، طفولتها خلال حرب التحرير الجزائرية، ظروف نشأتها وعلاقتها العائلية المضطربة أحيانا، شيئا مما تسميه «أزمة أمنية» كناية عما حدث في تسعينيات القرن الماضي، علاقتها بمختلف وجوه السياسة في البلد، شهادات عن مناضلين وسياسيين، خلقت منطقة عازلة وهادئة وسط فوضى السوشيال ميديا، أشبه بوثائقي حميمي أو فيلم سينما يصور بدقة واختصار شيئا من المخيال الجمعي الوطني انطلاقا من حكايات امرأة سياسية –وكم هن نادرات في البلد- بمادة إعلامية مختلفة فوضى الإعلام الشعبوي الذي تحول إلى قاعدة.
في تونس كما الجزائر، تبدو بصمة التصنيع واضحة على أولويات التواصل الاجتماعي، كما رائحة «نقل التجارب» تعبق، «زعامية 2.0» و»محاكم تفتيش فنية»، تستلهم تجارب عربية أخرى رائدة (المصرية نموذجا)، نقل واقتباسات سطحية، تجعل المتابع يتساءل حول محدودية أفق السياسي في المنطقة.

 كاتبة من الجزائر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب