مقالات
كيف يُصنع الديكتاتور؟ قراءة في العقلية العسكرية بقلم محمد ضياء الدين -الهدف السودانية –
بقلم محمد ضياء الدين -الهدف السودانية -

كيف يُصنع الديكتاتور؟ قراءة في العقلية العسكرية
بقلم محمد ضياء الدين -الهدف السودانية –
تُعبر سايكولوجية منسوبي الأجهزة النظامية من ضباط وجنود عن خلل بنيوي عميق تعاني منه الدولة والمجتمع .
إذ تتشكل عقلية الضابط منذ المراحل الأولى لتكوينه في المؤسسات العسكرية، ولا سيما في الكلية الحربية، وفق تصور راسخ بتفوقه على المواطن المدني (الملكي) . ومن ثم، يُنتج النظام التدريبي ضابطاً يحمل ذهنية استعلائية تُعلي من شأن الإنتماء العسكري على حساب قيم المواطنة المتساوية وسيادة القانون، مما يشكل انحرافاً خطيراً في مفهوم السلطة ودورها الوظيفي في المجتمع.
وتتبدى ملامح هذا الخلل بصورة مبكرة من خلال إخضاع الطالب العسكري، منذ انخراطه في معسكر التدريب، لبرامج قاسية من العزل تُعرف بـ Confinement تهدف إلى سلخه عن المجتمع المدني وترسيخ قناعة داخله بأنه قد إنتقل إلى طبقة سلطوية ومعرفية أعلى. ويتجسد ذلك عملياً عبر سلسلة من الممارسات الرمزية وتشكيل هالة من القداسة حوله، مما يُعمق الإحساس بالتمايز ويغرس في نفسه بذور الترفع عن الآخرين. وتُتوج هذه العملية بصناعة شخصية عسكرية تعتاد الامتيازات وتتطبع مع فكرة الأفضلية الذاتية، وهو مسار يتواصل تصاعدياً مع التدرج في الرتب العسكرية حتى بلوغ المناصب العليا، حيث تُمنح امتيازات مادية ومعنوية تفوق بكثير ما يحصل عليه في المهن المدنية، كالمعلمين والأطباء والمهندسين الخ ، رغم تفاني هؤلاء في خدمة المجتمع لسنوات طويلة دون تقدير موازٍ.
يؤدي هذا النمط التكويني إلى ترسيخ تصور في وعي الضابط مفاده أنه ليس مجرد موظف عمومي، بل سلطة مستقلة ومتعالية فوق القانون والمجتمع. وعلى ضوء هذا التصور المشوه، يغدو تطبيق القانون ممارسة شخصية، ينظر فيها حتى عسكري المرور إلى أي مخالفة مرورية بوصفها اعتداء مباشر على مكانته وهيبته، لا مجرد انتهاك للقانون. وينتج عن هذا الفهم الخاطئ مظاهر يومية من التعالي والانفعال والشخصنة، الأمر الذي يفضي إلى تفاقم حالة الاحتقان الدائم بين الأجهزة النظامية والمجتمع المدني، ويُضعف بدوره مقومات بناء الثقة الضرورية لأي نظام سياسي مستقر.
بناءً على ما تقدم، يبدو واضحاً أن أي مشروع إصلاح حقيقي لا يمكن أن يحقق أهدافه دون معالجة هذا الخلل البنيوي في منظومة التأهيل العسكري. إذ تقتضي الضرورة إعادة بناء منظومة إعداد الضباط والجنود على أسس جديدة، ترسخ في وعيهم أن الخدمة العسكرية وظيفة وطنية تفرض الالتزام بسيادة القانون، لا مصدراً لسلطة فوقية. كما يتوجب إعادة تعريف العلاقة بين المؤسسة العسكرية والمجتمع المدني على قاعدة الإحترام المتبادل والمساواة، بعيداً عن منطق الاستعلاء والاستقواء.
لا شك أن إهمال هذه الإشكالية تهدد استقرار الدولة وتعيق تطور المجتمع، مما يجعل معركة بناء الدولة المدنية معركة وجودية مفتوحة، تتطلب وعياً عميقاً وإرادة سياسية صلبة لمواجهتها دون تردد أو مساومة.
فالمعركة لبناء الدولة المدنية الحديثة تبدأ أولاً بإصلاح العقلية التي تحكم السلاح، قبل إصلاح المؤسسات التي تحكم المجتمع.