
لا أحد يُراسل الكتاب الشباب

سعيد خطيبي
أصغي إلى الراديو، وإلى حوار مع أحد النقاد، الذي يتكلم بنرفزة، ويحذر من «مصيبة». نعم إنها «مصيبة» في نظره. لأن عدد الروايات التي صدرت، في الجزائر، في عام واحد تجاوز الستين عنواناً، كما قال. يا لها من مصيبة! إنه منزعج من ظهور كتاب شباب، مثلما انزعج من ظهور دور نشر جديدة. وبدل أن يتطرق هذا الناقد إلى السؤال الأهم، عن غياب القراء، في بلد يحصي أكثر من 45 مليون نسمة، فضّل أن يفيض في الحديث عن «المصيبة»، التي شغلت باله. فتزايد عدد الكتاب هو مصيبة كما يظن، بينما المذيع في تناغم مع هذا الرأي. والناقد يواصل عمله في شن حملة تشويه ضد كتاب شباب، غير مبالٍ من أن دور نشر تجري محاصرتها، أو مكتبات تغلق أبوابها، فهذه كلها ليست مصائب، في نظره. فهو مشغول في قطع الطريق أمام الكتاب، وفي اتهامهم بالإسراف في الكتابة وفي التعجل إلى النشر. لقد تخلى عن صفته ناقدا وانتصب رقيباً، في بلد يعج بالرقباء وليس في حاجة إلى المزيد منهم. وهذا الكلام الذي جاء على لسان ناقد، إنما يراد منه أن يتبرأ من مهامه، بدل أن يتابع ما يصدر من كتب جديدة. مع العلم أن رقم 60 رواية في العام الواحد هو رقم بسيط في بلد بحجم الجزائر.
في الغالب، يأتي النقاد في الجزائر من الجامعة، ودائماً ما يتحججون بضيق الوقت وكثرة المشاغل، في تبرير عدم إلمامهم بأحدث الإصدارات، لكن هذه المرة عثروا على حيلة جديدة، بدل أن يقروا بأنهم الخاصرة الرخوة في العملية الإبداعية، باتوا يتهمون الكتاب الشباب بعدم التريث، ويصوبون إليهم إدانة بمجرد أن ينشروا روايات جديدة. ما هو شعور كاتب شاب وهو يسمع كلام هذا الناقد؟ وهو يصغي إلى اتهامات تنهال على رأسه؟ لا بد أن يفقد أملاً في الكتابة، سوف يشعر بإحباط وألا مستقبل يرجى من موهبته. ففي الجزائر، إذا لم يتعرض كاتب إلى تشويه سمعته، وإذا لم يمنع كتابه من رفوف المكتبات، فسوف يواجه ألسنة حادة مثل لسان هذا الناقد، ويشعر باللاجدوى من الكتابة، ويتخلى عن الأدب. وبعدما كانت مهام النقاد هي الاعتناء بالأدب، صارت مهامهم إقامة حواجز ضد من يكتب.
في الجزائر، يصل شابٌ إلى الكتابة وهو يعلم أن البلاد تفتقر إلى تقاليد أدبية، تخلو من مكتبات، ومن اهتمام بصناعة القراء، وعندما يصدر عمل جديد فإن احتمالات أن يمر مرور الكرام أعلى من احتمالات أن يحظى باهتمام، وهو يعلم أن الجهات الرسمية تعامل الكتاب من منظور فولكلوري، تقيم له الأعراس التي لا تدوم سوى بضعة أيام، وسرعان ما ينقضي العرس، ثم يعود الوضع إلى السكون، الذي كان عليه، وهو يعلم كذلك أن الناس أدارت ظهرها للكتابة، نظير قسوة الحياة، وانهماكها في البحث عن لقمة عيش، وهو يعلم أن الرقيب يتمتع ببصر وسمع، ولا يغفل عندما يخوض الكاتب الشاب في شؤون تصنف في باب «الممنوع»، وهو يعلم أن المشانق سوف تنتصب، في مواقع التواصل الاجتماعي، في حال انتقل من الكتابة إلى الكلام، وأن حرس الأخلاق والنوايا لن يتسامحوا معه، وهو يعلم أن الكتّاب المخضرمين لن يقرؤوا له، ولن يسمع منهم كلمة ترفع معنوياته. ففي الجزائر نعيش شرخاً غير مسبوق، بين المخضرمين من جهة، والكتّاب الشباب من جهة أخرى. فالجيل السابق دخل في حلبة صراع، كل واحد منهم يدعي أنه كاتب البلاد الأول، وأنه نجم الصالونات، الذي لا يزاحمه فيها أحد، بينما نعلم أن مبيعات الكتب لا تتعدى بضع عشرات من النسخ.
هناك حالة من الصراعات الوهمية التي تحيا فيها الساحة الأدبية، بينما الكاتب الشاب لا يحلم سوى بقارئ له، ويصعب عليه العثور عليه، ولم يعد ينقصه سوى أن يطل ناقد، من الراديو، ويثنيه عن رغبته في مواصلة الكتابة، بل يتهمه بالإسراف في النشر. والنتيجة معروفة، أن العديد من الشبان سوف ينصرفون عن الكتابة، سوف يشعرون بأن الساحة لا تتسع لهم في بلد بحجم قارة اسمه الجزائر، حيث النقاد يؤمنون بالكتاب المكرسين لا بالكتاب الجدد. في بلد حيث غالبية السكان من الشباب، لكن الذين يصيغون مخيلته، هم من أجيال قديمة.
لطالما كان الأدب حيزاً مهملاً ومهمشاً في الجزائر، بل لم يسبق أن عرفنا من الرؤساء السابقين اهتماماً بالمطالعة أو تشجيعا لها، خارج المناسبات الموسمية سريعة النفاد، ثم فجأة صار الأدب ومن خلفه الكتاب في مواجهة الإعصار، فأكثر القضايا التي شغلت الرأي العام، في الأشهر الستة الماضية، تتعلق بكتاب، من حملة ضد كاتبه بحجة «المساس بالأخلاق»، أو الإساءة إلى كاتب آخر بحجة الفوز بجائزة، أو تشويه سيرة آخر نظير تصريح له، أو منع كتاب ثم معاقبة ناشر، أو غلق مكتبة، ثم التغاضي عن تنظيم معارض كتاب، فقد صارت البوصلة تتحرك صوب الكتاب والكتّاب، وفي الأثناء تقام تظاهرات بسيطة، في الاحتفاء بكتب تمجد السائد، ويجاهر أصحابها بأن الأمور كلها بخير، وأن الأدب في الجزائر على أحسن حال، ولا أحد منهم يجاهر بأن الكاتب صار مغضوباً عليه، صار يوصف بالطابور الخامس، وكأنه السبب في ما وصلت إليه البلاد من نكسات. يريدون منه أن يصير شاهداً على العتمة، أن يقول عكس ما يحصل، وإن لم يفعل، سوف ينعت بأشياء لم يسبق له أن سمع عنها. إن هذا الوضع من تدهور الحالة الأدبية في البلاد ينذر بالمصيبة الحقيقية، التي لم يتحدث عنها ذلك الناقد في الإذاعة. إنما المصيبة أننا مقبلون على أجيال جديدة من الكتاب تعلي من شأن الرقابة الذاتية، وتتنازل عن حقها في الحرية.
كاتب جزائري