كالمستجير من الرمضاء بالنار!

كالمستجير من الرمضاء بالنار!
يحضر، بقوة، هذا المثل التحذيري بصدد علاقة لبنان الرسمي بواشنطن، في هذه المرحلة المصيرية من تاريخ لبنان والمنطقة (والعالم!). ينعقد رهان المسؤولين اللبنانيين الجدد، منذ اتفاق «وقف الأعمال العدائية بين لبنان الرسمي والمقاومة، من جهة، وحكومة العدو، من جهة ثانية، على واشنطن في تطبيق الاتفاق المعلن، وبالتالي، في إنهاء الاحتلال الإسرائيلي الجديد والقديم لعدد من المواقع والمناطق في الجنوب اللبناني. هذا فيما تواصل تل أبيب اعتداءاتها في معظم المناطق اللبنانية، من دون مهل وبأُفق توسعي، استناداً إلى اتفاق مغاير وغير معلن رسمياً، بهذا الشأن، بينها وبين المسؤولين الأميركيين!
لا بدَّ للعلاقة مع واشنطن، في هذا الدور وفي هذه المرحلة، من أن تثير في ذهن كل ذي بصر وبصيرة شؤوناً وشجوناً في امتداد تجربة وتاريخ حافلَين بالمحاولات والخيبات! لعل أبرز المحطات تلك التي دشّنها الرئيس المصري أنور السادات حين روَّج لانقلابه على سياسات سلفه الرئيس الراحل والقائد التحرري الكبير، جمال عبد الناصر، بالتنكر لـ«الصديق السوفياتي» بزعم أن أوراق اللعبة والحل هما بنسبة 99% في يَدَيْ واشنطن.
أفضل من لخّص النتيجة التي جنتها مصر من «الوساطة» الأميركية، الشاعر المصري الكبير أحمد فؤاد نجم عبر المعادلة الآتية: «يا خوفي من يوم النصر، ترجع سينا وتروح مصر»!
التجربة الأخرى، هي في دور واشنطن في مفاوضات إقرار ثُم تطبيق «اتفاق أوسلو» لعام 1993 إذ احتكرت واشنطن الوساطة، فانتهى إلى ما نراه اليوم من محاولة دموية شاملة لتهجير سكان الضفة الغربية بعد إغراقها بمئات آلاف المستوطنين وتحويل سلطتها إلى «شرابة خرج» لا حول لها ولا طول!
التجربة الثالثة، المريرة هي الأخرى، تجري الآن في لبنان حيث تعوِّل سلطته الجديدة على واشنطن، حصرياً، لإقناع حكومة نتنياهو «بوقف العمليات العدائية» ضد لبنان. وهي عمليات تجري من طرف واحد، بعد اتفاق رعته واشنطن بمشاركة رمزية وشكلية فرنسية. وفيما التزم به لبنان الرسمي والمقاومة، أطلقت واشنطن، من موقعها، وسيطة ومراقبة، يد الجيش الإسرائيلي ليحقق، بعد وقف القتال، ما عجز عن تحقيقه أثناء المعارك التي استمرت شهرين بعد أن حشد على الجبهة مع لبنان حوالى 75 ألف جندي، ولم يتمكّن من احتلال قرية واحدة بشكل كامل ومستقر!
تعوِّل السلطة اللبنانية على واشنطن، حصرياً، في وقف هذا العدوان المتمادي، ضمن معادلة أن الحل بيد واشنطن، وأن وسيلته الوحيدة والحصرية الاتصالات الديبلوماسية معها، وليس أي أمر آخر! يُبرر هذا التوجه بتكرار، من قبل السلطة الجديدة، بأن «الشعب اللبناني تعب من الحرب، ولم يعد يريدها». يتكرر، أيضاً، في الأثناء، من قبل المسؤولين الجدد، «تأكيد قرار احتكار السلاح في يد الدولة»، وكذلك «قرار السلم والحرب» (أي السلم فقط ومنع الحرب!).
بهذه «الترسانة» من التنازلات المسبقة، وبوهم أن واشنطن التي دعمت رئيسي الجمهورية والحكومة في الوصول إلى منصبيهما، ستدعمهما في تطبيق الاتفاق وفي انسحاب العدو! فيما العكس هو الصحيح، إذ إن واشنطن أعطت في الرئاستين لكي تأخذ، بالمقابل، ما يخدم العدو، كما هو دأبها دائماً في أي نزاع يكون طرفاً فيه! يذهب، إذاً، المسؤول اللبناني إلى المفاوضات ضعيفاً، مراهناً ومرتهناً، يستمهل واشنطن وتل أبيب مدة ليتمكّن من تنفيذ عملية سحب السلاح بالتراضي، لا بالقوة، كما تطالب «القوات اللبنانية»، ملحّةً، ومتربّصةً بالسلطة الجديدة. وقوات جعجع، في المناسبة، تشكّل الجناح الأكثر تطرّفاً في اليمين اللبناني.
وهي تزيد من ترسانتها العسكرية التي استعملت جزءاً منها في «كمين الطيونة» الدموي في 14 تشرين الأول 2022، ولم يتمكّن أحد من مساءلتها، أو يطرح أحد سحب سلاحها باعتباره سلاح فتنة داخلية غير موجّه ضد العدو الإسرائيلي! هكذا يتوزّع اليمين اللبناني ما بين مراهن على واشنطن للبقاء في السلطة، عبر سحب سلاح المقاومة من خلال المفاوضات مع قيادتها، وبين مراهن على تطوير العدوان الإسرائيلي بذريعة عجز السلطة عن سحب السلاح بحيث يتمكّن اليمين المتطرّف المتعاون معها تاريخياً، من اقتناص السلطة، كما حصل عام 1982!
تثير هذه المعادلة إشكالات عدّة في ضوء تجارب الماضي والحاضر. أولها وأخطرها أن الأميركي خصم (عدو فعلياً)، وهو حَكَم في الوقت نفسه! ليست هذه تهمة. إنها حقيقة يكررها الأميركي قبل سواه، على لسان مسؤوليه الكبار وموفديه وممثليه في لبنان والعالم: إسرائيل أداة وحليفة لأميركا في كل الساحات والأوقات! لم تتردّد الموفدة مورغان أُورتاغوس في إعلان ذلك من القصر الجمهوري مقروناً بالمطالبة بعزل «حزب الله»! المشكلة الأساسية في هذا المسار، هو التعويل على موقف واشنطن باعتبارها دولة «صديقة»!
هذا خلل جوهري تترتب عليه أشكال متعددة من السلبيات والأخطاء:
أولاً، التعويل على حليف العدو في حل المشكلة معه!
ثانياً، استعداء كل من هم أعداء واشنطن في لبنان والمنطقة: بدءاً من المقاومة نفسها، إلى الحلفاء الطبيعيين للمقاومة ولبنان.
ثالثاً: إنّ دور واشنطن الداعم كلياً للمشروع الصهيوني الذي يستظل المشروع الأميركي العام في المنطقة، يدير، بالإضافة إلى عدوانية إسرائيل من الخارج وعلى الحدود، محاولة أميركية من الداخل اللبناني لإخضاع الوضع والموقف اللبنانيين بما يؤمن تحقيق كل الأهداف الصهيونية في لبنان خصوصاً والمنطقة عموماً!
رابعاً: تتولى واشنطن مباشرة ممارسة الضغوط في كل مكان وبكل الوسائل، ليس فقط لمنع المساعدات عن لبنان، بل أيضاً لحمل لبنان على رفضها من دول لا تخضع للهيمنة الأميركية.
العدوان الصهيوني والوصاية الأميركية الوقحة وملحقاتها العربية والمحلية، يستهدفان كل لبنان والأكثرية الساحقة من اللبنانيين، وليس المقاومة فقط. مواجهتهما هي مسؤولية وطنية عامة. من هنا يبدأ الفرز، وتتحدد وتتبلور المواقف والسياسيات والاصطفافات.
* كاتب وسياسي لبناني