مقالات

في عدالة الغاية ومرونة الطريق

في عدالة الغاية ومرونة الطريق

علي الرفاعي

الطريق إلى الحرّية قد لا يكون واضح المعالِم دائماً، وليس مرصوفاً باليقين على أيّ حال. لا وصفةَ جاهزة، ولا خريطةَ محفوظةً في دفاتر التاريخ تقود الشعوب إلى الخلاص. والنضال من أجل الحقوق ليس طقساً عباديّاً من الطقوس التي لا تُمسّ، وليست الثوراتُ والمقاوماتُ والحركاتُ التحرّرية خَلطةً جامدةً من الأفكار والشعارات والوسائل، بل هي فعلٌ حيٌّ، وتفاعلٌ دائمٌ مع الأرض، والناس، والوقائع التي لا تثبت على حال. وقد يكون من أكثر ما فَتَكَ بالحركات التحرّرية عبر التاريخ، أن تقع أسيرةَ وسيلتِها، وأن تُغرم بأدواتها حتى تكاد تراها غايةً لا وسيلة. أن تتحوّل الوسيلةُ – سواء كانت النضالَ المسلّح أو النضال اللاعنفي- لو صحّت التسمية، من جسرٍ نحو الهدف، إلى هدفٍ بحدّ ذاته.

هذا ليس نقاشاً في الجوهر، بل محاولة تحليل في الوسيلة. ففي عالمٍ البقاءُ فيه للأقوى، يغدو نزع الشرعية عن الكفاح المسلّح، أو الدعوة إلى التخلي عنه لمجرّد انكسارٍ في معركة، أو تراجعٍ في لحظة، أو فداحةِ خسارةٍ يدفعها حتماً من يُريد انتزاع الحرية من فم الغُول، ضرباً من الجنون. لكن، رغم ذلك، فإنّ الوسيلة لا ينبغي أن تُقدّس، وإنّ الكفاح -مسلّحاً كان أم سلميّاً- يجب أن يخضعَ لمحاكمةٍ فكرية شُجاعة، جذرية، بلا كفوفٍ ولا أقنعة؛ محاكمةٍ قائمةٍ على الوقائع لا الأوهام، وعلى المصلحة البعيدةِ المدى لا على ردود الأفعال والانفعالات اللحظية.

فلنستنطق بعض تجارب التاريخ:
– في إيرلندا الشماليّة، وبعد سنواتٍ طويلةٍ من الكفاح المسلّح، ومن القمعِ الدمويّ والاغتيالاتِ والتفجيرات، أدرك الجيش الجمهوريّ الإيرلنديّ أنّ استمرار العمل المسلّح، في ظلّ اختلال موازين القوى، وتحوّلاتِ البيئةِ السياسيةِ الدولية، وإرهاقِ القاعدة الشعبية، لم يعد يخدم الغايةَ الأساسيّة التي كانت واضحة: تحقيقُ الاعترافِ والعدالة لشعب إيرلندا في الشمال. وهكذا، ما إن لمح هؤلاء ثُقباً صغيراً في جدارِ الواقع المسدود، وكان ذلك الثقب هو السياسة والعمل السياسي، حتى دخلوا منه لا خيانةً للمبادئ، بل إيماناً بأنّ الهدفَ أسمى من الوسيلة.

دخل جناحهم السياسيّ «شين فين» إلى المفاوضات، وتحوّل إلى قوّةٍ تمثيليّةٍ أساسية، من دون أن يتنازلَ عن ثوابته. وها هو اليوم، بعد صبرٍ طويل وتحوّلاتٍ كثيرة، يُصبح القوّةَ التمثيليّةَ الأولى في البلاد، وصوتَ الوحدةِ والاستقلالِ الأقوى.

– على بُعد آلاف الأميال، في تشاباس جنوب المكسيك، حمل الزاباتيستا السلاح، وخرجوا من الغابات ليقولوا كلمتهم في لحظةٍ لم يكن يُسمَع فيها صوتُهم. لكنّهم ما لبثوا أن انسحبوا بهدوءٍ من الميدان. لم يستسلموا، إنّما أعادوا التموضع. لم يكتفوا بتغيير أدواتهم، بل أعادوا تشكيل الميدان نفسه: أسّسوا نموذجهم الثورويّ انطلاقاً من المجتمع، ابتدعوا نظاماً تعليميّاً بديلاً، بنوا إداراتٍ محليةً مستقلّة، ومارسوا المقاومة كفعلٍ ثقافيٍّ واجتماعيٍّ يوميّ.
هل تخلّوا عن المقاومة؟ لا، بل غيّروا شكلها جذريّاً. لم تعُد السلطةُ هدفهم حين اكتشفوا أن الغاية أعمق، وأنّهم بالمرونة والإبداع، قادرون على تجاوز إسقاط السلطة كهدف نحو إعادة تشكيل المجتمع بما يحقّق المعنى الأصل.

في المقابل، هناك تجاربُ لم تحقق مبتغاها إلّا حين امتشقت السلاح. الجزائر لم تتحرّر إلّا بالدم. وسنواتُ النضال السلميّ في جنوب أفريقيا لم تبلغ خواتيمها التحرّريّة إلا حين وجد «المؤتمرُ الوطنيُّ الأفريقي» نفسَه مدفوعاً لحمل السلاح عقب مذبحة شاربفيل، فأسّس «رُمح الأمة»، ودفع بنظام الفصل العنصريّ إلى التفاوض… فالتفكك.
ما المعيار إذاً؟! لا معيارَ ثابتاً، ولا قاعدةَ جاهزة. كما إن اتخاذ موقفٍ واضحٍ للإجابة عن سؤال: ما الذي يجب علينا الآن فعله؟ يستدعي الإلمامَ بكلّ التفاصيل. وفي زمنٍ كهذا، متخم بالألغاز ومثقل باللايقين، تُصبح الإجابة السهلة ضرباً من العرافة والتبصير، لا التحليل.

لكن المبدأ الذي لا بدّ من الانطلاق منه، خصوصاً بعد هذه المطحنة التي مررنا بها ولم نخرج منها بعد، هو ضرورةُ إعادة التفكير في كلّ شيء: بلغة الواقع لا بمشاعر الحنين، بأدوات التحليل لا بالشعارات. أن نسأل بعقول باردة وقلوب منفتحة، من دون خوف وأحكام مسبقة: هل يخدم السلاح اليوم، في هذا الظرف، القضية؟ أم أنه قد يتحوّل إلى نيران صديقة؟ هل يصون الناس ويؤذي العدو؟ هل يفتح أفقاً سياسيّاً أم يعمّق الاستنزاف؟

وهكذا قد تبرز الخلاصة الحاسمة، ولا أقول الجواب النهائي: الكفاحُ المسلّح ليس غايةً في ذاته، كما إنه ليس أداةً باطلةً عند أول هزيمة. بل هو خيارٌ إستراتيجي، ينبغي أن يخضع لتقييمٍ صارم. فإن دلّت دراسة اللحظة على أن البندقية قادرةٌ على تحرير الأرض وحماية الناس، فلتكن. وإن دلّت على أن أدواتٍ أخرى أنجع، أو أكثر ملاءمةً للمرحلة، فليكن ذلك.

ووسط الضجيج الصاخب الذي يصدره المتصلّبون على طرفَي الطيف: أولئك الذين يرون البندقية قدراً ومصيراً وطريقاً لا بديل منه، وأولئك الذين يدعون إلى رميها كيفما اتّفق، ولو كان الثمن هو الكرامة نفسها، من دون رؤيةٍ إستراتيجيةٍ تحمي وتعيد الحقوق… بين هذين الصوتين العاليين، تذوب الحقيقة ويخفت صوتُ العقل الهادئ، ولا تُمنح الفرصة للناس في ممارسة حق طرح السؤال. لا لأن هؤلاء خائفون من السؤال، بل لأنّ المناخَ العامّ وثقل التضحيات التي لم نزل ندفعها يومياً، يحوّل الإجابات الجاهزة إلى ما يشبه المسلّمات، والتشكيك في المُسلّمات في زمن الحرب مهلكةٌ أخرى.

ما نحتاجه اليوم هو ورشةٌ فكريّةٌ صادقة، جريئة، جامعة، يشترك فيها كلّ المؤمنين بجوهر المقاومة وجدواها، من إسلاميين وعلمانيين، وطنيين وقوميين، ليبراليين ويساريين، من أبناء الجنوب والبقاع والشمال، لبنان الكبير والصغير، من المقيمين والمغتربين، من النُخب ومن القواعد، من المثقفين والعمال والفلاحين والطلاب… ورشة من دون إقصاء أو تصنيفٍ مسبق، تعيد تعريف المقاومة كهويةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ واقتصادية، تُقاوم الاحتلال والفساد والطائفية والتبعية والاستبداد ومشاريع التقسيم. ورشة بلا خطوطٍ حمراء، وبلا ابتزازٍ عاطفيّ. نخلع فيها أثوابَ الأيديولوجيات المتصارعة، وننظر إلى الواقع كما هو، لا كما نحبّ أن يكون.

نحتاج إلى نقاشٍ حقيقيٍّ في الخيارات والبدائل، في معنى الانتصار وشروطه، وفي أثمان كلّ طريقٍ نختار أن نسلكه معاً، لأن نتائج ذلك الطريق وتبعاته ستنعكس على الجميع بطبيعة الحال.
والحريةُ لا تأتي بمجرد أن نحمل السلاح فقط، بل حين نعرف لماذا نحمله، ومتى نحمله أو نضعه، وأين نصوّبه وكيف. في النهاية، لا قداسةَ للوسائل، بل للعدالةِ التي نريد أن نبلغها.

والعدالةُ، كالنهر، تجدُ مجراها دائماً في الأرض، وإلا شقّت طريقها في الصخر.
* كاتب

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب