بعيداً من الصراخ

بعيداً من الصراخ
في أوقات الأزمات الكبرى، تحديداً تلك المجبولة بأنهار الدم وأكوام الدمار وتلال الأوجاع ومديات العذاب، وجبال ملح أنجاس الداخل، المبشرين بحتمية زمن الخارج، وبهزيمة الحلم، وانكسار الأمل… يتدفق طوفان الأسئلة الكبرى والوجودية منها. والتي وإن بدأت بلماذا وكيف؟ فإنها، قد لا تتوقف عند: «وينك يا الله؟»، «هو الله مش شايف؟».
صحيح أن طرح هذه الأسئلة يعبر عن صعوبة المآلات، وثقل اللحظة ومعطياتها على الأرواح والأبدان والعقول، وفيضان منسوب الخوف على المصير، وعلى الغد. الأمر الذي يلجأ الناس حينه، للبحث عن مسارب هروب من جنون لحظتهم، فنرى البعض يرتمي في أحضان النبوءات المنبعثة من كهوف الأوهام، في حين يجد البعض الآخر ملاذه وأمنه في تفسيرات القدر المتوهمة، فيسلّم كل منهما تسليم العاجز للواقع.
أما النخب السياسية والفكرية، فمنهم من يفترض مسبقاً حتمية الهزيمة، حتى قبل انقشاع غبار المعركة، فيبحث في الذات عن علل أصلانية متوهمة، جاعلاً من كلماته دموعاً خائفة وجلة، تثير الشفقة والحزن، هذا إن نحن أحسنَّا الظن.
كما إن منهم من يختار الهروب إلى الأمام، للإفلات من استحقاقات الإجابة عن لماذا وكيف؟ وفي مقدمتها، إعادة القراءة والوعي بالتاريخ والواقع. وهي المسألة التي ما تزال لدى كثير من الأذهان بحكم المحرمات، بمعنى آخر، كان في الإمكان أن يأخذ التاريخ والواقع مسارات أخرى.
الإجابة عن لماذا وكيف، تشترط التجرد في البحث عن إجابات أسئلة الواقع، والتي بدورها تفترض حكماً الإجابة عن أسئلة التاريخ. لأن معطيات الواقع، بكل تفاصيلها، ما هي إلا تراكمات التاريخ التي عليها نقف، وفي حيّزها نتحرك. وكلاهما، الواقع والتاريخ، محصلة أفعال وسلوك «بشر» صاغت ذهنيتهم منظومة معرفية معينة.
في المحصلة، الواقع، أي واقع كان، بكل مآلاته وتفاصيله ومصائبه، هو نتيجة فعل بشري صرف، وفقاً لقوانين حركة التاريخ، والتي من أخص خصائصها أنها لا تحابي أحداً، ولا تميل مع أحد.
وعليه، فإن الأسباب التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه، والتي تفسر مآلات كل حالة من حالاتنا، مهما كانت وأينما كانت، وأعني الأزمات والمصائب، لا تخرج عن سببين اثنين:
إما أن هناك فعلاً كان يجب أن يُفعل، لكنه لم يُفعل. وإما أنّ هناك فعل فعل بشكل خاطئ.
يبقى المطلوب الجرأة والموضوعية والأرضية لمناقشة هذه المسألة، مع الاقتناع المسبق بأن كل ما فعله ويفعله إنسان ما، بإمكان إنسان آخر تجاوزه.
* أسير فلسطيني محرر ومبعد