
نجل جبريل ولصوص الفنادق

راشد عيسى
فيما يستمع المرء للتسجيل الصوتي لخالد جبريل، أبو العمرين، نجل الزعيم التاريخي لـ «الجبهة الشعبية- القيادة العامة»، الموجّه إلى قيادة الجبهة، رفاق دربه، قد تحضر في البال أفلام المافيا، وقانون الصمت، وما يمكن أن يفعله رجال العصابات عندما تنفضّ عصابتهم إثر اختراق ما، أو انقضاء زمن، وحدوث تحولات.
يتخيل جبريل أن هزيمة جماعية تظل أرحم وأخفّ وطأة، وربما أكثر درءاً للخزي
غير أن التسجيل، غير المسرّب، والمبثوث على وسائل التواصل الاجتماعي، كرسالة تنوس بين العتب والتهديد والابتزاز، ينكشف عن أساليب لصوص الدجاج، ففي الوقت الذي يجهد فيه نجل أحمد جبريل (توفي أبوه العام 2021) بتذكير زملائه بأن طريق الجبهة، والكراسي التي وصلوا إليها، إنما عُمّدت بالشهداء والأسرى والأنين (مدهشة معرفة أمراء الحرب بكلمات من هذا النوع)، لا يتورّع عن تذكير أحد أعضاء اللجنة المركزية بحادثة الطائرة في طريق العودة من إيران، عندما علا صراخ جهاز الإنذار أمام حقيبته، فَفُتحتْ لتنكشف عن ملاعق وشوك وسكاكين سرقها العضو من الفندق الذي استضافه في طهران. ومع ذلك، غضَّ نجلُ جبريل النظر عن أحد رفاق الدرب، ويبدو أنه مستعد للاستمرار في التغاضي، بحسب التسجيل، في حال أن قيادة الجبهة تراجعت عن موقفها تجاهه.
تصفية الحسابات.. حادثة الفندق
ما يريده أبو العمرين (لا يكتفي الرجل بعُمر واحد) من الزملاء ألّا ينصاعوا إلى مطالب مقاطعته وعدم الاتصال به، ويبدو أنه يعني قرار تجميده من الجبهة، هو الذي كان يشغل الأمين العام المساعد إثر وفاة والده وتسلّم طلال ناجي الزعامة. يستنكر النجل أن تُلْصَق به وحده معارك مخيم اليرموك والزبداني، التي خاضها باسم الجبهة، وبقرار منها، على ما يقول. واليوم يريد رفاق الدرب التنصّل من تلك الحروب والظهور أمام «الهيئة» «صاغ سليم»، يضيف أبو العمرين، في إشارة إلى القيادة السورية الجديدة المنبثقة من «هيئة تحرير الشام».
يسأل جبريل: «هل هي أخلاق الرجال أن نلصق كل التهم بحرب المخيم وحصار الزبداني بأبو العمرين؟»، وهنا يتوجه تحديداً بالكلام إلى أنور رجا، عضو اللجنة المركزية، الأمين العام المساعد الحالي: «يا أبو خالد أنور، هل هي أخلاق الرجال؟ أن تضحوا برفيق لكم؟ أنا الوحيد الذي دفع فاتورة هذا الذي حصل في سوريا، أنا بيتي راح، عفش بيتي، أواعي مرتي، من الذي فقد شيئاً في هذه الأزمة السورية؟».
ثم يذكّر رجا، الذي كان أثناء سنوات الحرب والثورة مسؤولاً لإعلام الجبهة، وواحداً من «المحللين» السياسيين المعتمدين في قنوات إخبارية عديدة: «يا أبو خالد، أنت أكثر واحد كنت تقف في الإعلام دفاعاً عن نظام بشار. ألستَ من كان يقول سنقطع اليد التي تمتد على سوريا؟ نسيت؟».
مدهش أن تنظيماً كهذا ما زال لديه أمل في النجاة من العدالة
وفي حديثه لطلال ناجي يسأل أبو العمرين: «أنا أم أبو العباس؟»، وهو يقصد أحد مؤسسي «جبهة التحرير الفلسطينية» الذي قضى في العراق العام 2004.
وهو يرمي للقول إنه يستحق ألّا يقاطَع، أسوة بمطلوب دولي كأبو العباس، الذي له باع في الإساءة للجبهة، على ما يظهر من كلام نجل جبريل. يقول: «ألم تسافر أنت وأبو فراس (ربما يقصد الراحل فضل شرورو) إلى العراق، وكنتم بضيافة و(حجز) فندق أبو العباس، هو الذي قتل الجبهة، وحبس الناس في السجون».
يأمل أبو العمرين، ويدعو لـ «ألا تنحرف البوصلة بتأثير الأزمة الراهنة الاقتصادية، وألا نندفع لأحضان محمود عباس والسلطة، كما يريد أنور رجا».
ويهدد بشكل صريح، بل ويقسم بأنه لن يكتفي بما يفعل: «هذا التسجيل الأول، وستليه تسجيلات لاحقة، وهناك قضايا وموجودة وموثقة، أنا بالنهاية مسؤول أمن. كل واحد يصحى على حاله».
يختار نجل جبريل طرفاً ضعيفاً، كما يبدو، من بين أعضاء «المركزية» عندما يذكر حادثة سرقة الفندق، كما لو أنه «يضرب المربوط ليرتدع المفكوك»، فهو، منذ أيام فقط، قام بتهنئة الأمين العام عندما أطلق سراحه من قبل السلطات السورية إثر اعتقال لساعات فقط، بمنشور بالغ اللطف على صفحته في فيسبوك، مرفق بصورة لهما: «كلمات من القلب أهديها لأخي أبو جهاد طلال بعد اعتقاله.. كنتُ خائفاً عليك وكأنك جزءٌ من تاريخ النضال. وجودك غال على قلبي أكثر مما تتصور.. وسلامتك تعني لنا الكثير».
العدالة المؤجلة.. ذاكرة المخيم
مدهش أن تنظيماً كهذا ما زال لديه أمل في النجاة من العدالة، التي نأمل أن تبدأ بكتابة فصولها بالفعل، التنظيم الذي حاصر مخيم اليرموك وفظّع فيه بكل وحشية، بحيث تفوّقَ على جيش النظام وأجهزته الأمنية في التنكيل بالفلسطينيين. وقد كان لنجل جبريل، فوق كل ما ارتكب، أن يتهم أبناء المخيم بأنهم باعوا مخيمهم لداعش، «أحنوا ظهورهم» كما قال في رسالة صوتية سابقة، وبالتالي سمحوا للآخرين باستباحتهم، على ما يقول. «باعوا ثم هربوا إلى ألمانيا والسويد». ولا كأنهم هجّروا قسراً تحت قسوة قصف الميغ لجامع المخيم أولاً، ثم لأحياء المخيم، ومخيمات أخرى، بقذائف الهاون العشوائية.
سقوط النظام السوري سيعني أيضاً سقوط ميليشياته بالكامل، وانفضاح ملفاتها والمتورطين بأعمال قذرة
يتخيل جبريل أنه ببقائه ضمن الفصيل سيكون بمنجى عن العدالة، فلا شك أن بروباغندا الجبهة ستجهد في تسويق ما حدث على أنه ضرورات المرحلة، وحتى لو اعترفت بوقوع أخطاء وارتكابات فلعلها مثل الجميع تخطئ وتصيب، وإن كان للعدالة أن تنصب أقواسها فيجب أن تطال الجميع، ومن منكم بلا خطيئة فليرمها بحجر. أو لعله يتخيل أن هزيمة جماعية تظل أرحم وأخفّ وطأة، وربما أكثر درءاً للخزي.
لكن إنْ أراد جبريل اختبار هذه النظرية عليه أن يجرّب المشي في شوارع المخيم اليوم، بعد أن تحرر المخيم من قبضة النظام الأسدي الرهيب وميليشياته، سنرى كيف تكون عدالة الفقراء والمحرومين والمجوّعين والمأخوذين من أنوفهم إلى حروب لم تكن لهم يوماً.
سقوط النظام السوري سيعني أيضاً سقوط ميليشياته بالكامل، وانفضاح ملفاتها والمتورطين بأعمال قذرة، ملفات تحتاج قصصها إلى سنوات وربما عقود، وهذا يحتاج صحافة حرة، جادة، وإرادة لا تلين بتحقيق العدالة.
العدُّ لن يبدأ فقط مع جرائم اندلعت في العام 2011، بل لا بدّ من العودة إلى البدايات، من حرب الفنادق، إلى حروب المخيمات، وطرابلس،.. لذلك فإن خالد جبريل، من المرجح أن يحاسَب مرتين، مرة لأنه أبو العمرين، ومرة بالنيابة عن أبيه.
٭ كاتب من أسرة «القدس العربي»