هل كانت الناصرية ضحية لديكتاتورية الشارع؟

هل كانت الناصرية ضحية لديكتاتورية الشارع؟
مالك التريكي
الانطباع الذي ساد عند كثيرين ممن استمعوا إلى تسجيل محادثة عبد الناصر مع القذافي هو أن الزعيم الذي أحبه العرب وجعلوه مناط آمالهم لم يدرك حقيقة صعوبة، أو استحالة، النصر العسكري على إسرائيل إلا في أعقاب كارثة 1967. ولكن الشواهد التاريخية تظهر أنه كان مدركا لهذه الحقيقة منذ منتصف الستينيات، بل وربما قبلها. من ذلك أنه لما ذهب أبا إيبان إلى واشنطن يوم 26 مايو 1967 يطلب الدعم السياسي والمدد العسكري الأمريكي بزعم أن لدى إسرائيل معلومات موثوقة بأن الهجوم المصري وشيك، اعترض عليه الرئيس ليندون جونسون قائلا إن المعلومات الأمريكية تؤكد عكس ذلك، وكرر له النصيحة مرتين بأن على إسرائيل، إذا كانت حريصة على الدعم الأمريكي، ألا تكون هي البادئة بالحرب. ولكنه ختم، تهوينا من تهويلات إيبان: وحتى لو تعرضتم للهجوم فإن تقديرنا أنكم سوف تلقنون المصريين درسا، قال حرفيا: سوف تُوسِعُونهم طَريحة «علقة سخنة».
لم يكن الذي قاله جونسون سوى تقرير لواقع. فقد كان رجحان ميزان القوى العسكري لصالح إسرائيل أمرا معروفا سواء في العواصم الغربية أم في موسكو. إلا أن المفارقة الأليمة أن “الشارع العربي” لم يكن يعلم من ذلك شيئا وكان يتوهم أن النصر قريب. ولكن إذا كان هذا الوهم أحد مظاهر قصور الرأي العام العربي عن وعي حقائق العصر، فالأكيد أن عبد الناصر قد كان محصنا ضد الأوهام. ذلك أنه كان متابعا للصحافة الدولية، مواظبا على قراءة الهيرالد تريبيون الأمريكية والجرائد اليسارية البريطانية وعلى الاستماع للبي بي سي، فضلا عن اطلاعه اليومي على تقارير الاستخبارات العسكرية.
إذا كان هذا الوهم أحد مظاهر قصور الرأي العام العربي عن وعي حقائق العصر، فالأكيد أن عبد الناصر قد كان محصنا ضد الأوهام
بل الثابت، مما رواه محمد مزالي، أن عبد الناصر بدأ يميل للحل السلمي منذ منتصف الستينيات، اقتناعا منه بأن الحل العسكري لا يزال بعيد المنال. والشاهد أنه لما زاره بورقيبة، من 16 إلى 21 فبراير 1965، مصطحبا وفدا يضم أحمد بن صالح والشاذلي القليبي والحبيب بورقيبة الابن والطيب السحباني ومحمد مزالي، قال له، بحضور عبد الحكيم عامر وحسين الشافعي وأنور السادات وسواهم، إن العرب ارتكبوا خطأ فادحا برفض قرار التقسيم عام 1947. ووجه الخطأ أنهم كانوا، ولا يزالون، غير قادرين على استرجاع الحق بقوة السلاح، بينما كان بن غوريون من الذكاء بحيث قبل ما رفضوه، فلا عجب أنْ تصدّرت الصحفَ الغربية آنذاك عناوين تقول: «ارتياح في تل أبيب!». فهل كتب على العرب أن يظلوا منفردين بالموقف السلبي قائلين لا، لا على الدوام؟ الواقع أنه لم يعد للعرب الآن من خيار سوى أن يعلنوا قبول الشرعية الدولية التي تعترف لهم من فلسطين التاريخية بشطر كامل يشمل حيفا وعكا وأجزاء من النقب… وبالطبع فإن إسرائيل لن تقبل، وعندها سيعرف الرأي العام الدولي أن إسرائيل هي الرافضة (..) عندها رد عبد الناصر: «هذا عظيم، إنه مخطط رائع!»
والحق أنه رد مفاجئ لمن تعوّد حماسة خطب عبد الناصر وبيانات «صوت العرب»، ولكنه لم يكن مفاجئا لبورقيبة. لهذا قال لعبد الناصر بمكر بفطنته المعهودة: لقد أدليتَ أخيرا بتصريحات لصحيفة أوروبية أكدتَ فيها وجوب أخذ قرار الأمم المتحدة المتعلق بالشرق الأوسط (أي قرار التقسيم) مأخذ الاعتبار. أجاب عبد الناصر: طبعا، وهل في وسعنا أن نفعل غير ذلك؟ قال بورقيبة: ولكني لاحظت أن تصريحاتك لم تُنقل في الصحافة المصرية! رد عبد الناصر: الرأي العام عندنا غير متهيئ بعدُ لقبول ذلك، بل سيظن المصريون أنني جننت! سأله بورقيبة: فهل ترى مانعا في أن أطرح أنا هذا المخطط؟ أجاب عبد الناصر: عظيم! قال بورقيبة: سأكون بعد أيام في الأردن وسأطرح هذه الأفكار، ولن يكون ذلك في صحيفة أو استوديو إذاعة وإنما أمام الفلسطينيين أنفسهم. وعلق ضاحكا: وآمل ألا أكون عرضة لهجوم وسائل إعلامك القوية! فابتسم عبد الناصر ولم يعقّب…
والذي قصده بورقيبة أن إقلاع العرب عن موقف «إما كل شيء، أو لا شيء» واعترافهم بالشرعية الدولية سوف يغيران قواعد اللعبة ويلزمان القوى الغربية بتحمل مسؤولياتها وحمل ربيبتها الإسرائيلية على الجنوح للحل السلمي. ولكنه لم يقف عند هذا الحد، بل أصاب مضيّفيه بالذهول لما قال: كأخ تونسي، أسمح لنفسي بأن أنصحكم بالانسحاب من اليمن. لا أحد في التاريخ استطاع احتلال هذا البلد، لا الإنكليز ولا الفرنسيون… فتخلّص عبد الناصر قائلا: أحيل الكلمة للمشير عامر المباشر لهذا الملف.
كاتب من تونس