
الإعلام الرسمي العربي… صيحة في واد

أنس بن صالح
لا يملك المتأمل في أحوال الإعلام الحكومي، أو الرسمي، إلا أن يأسف للدرك الأسفل الذي انزلق إليه هذا النوع من الإعلام في زمن التحولات الرقمية والتكنولوجية، بل التشوه الذي طال مفهوم ووظيفة الإعلام نفسه، في ظل انتشار وتعدد وسائل الاتصال الجماهيري، وقد بات لها من الوسائل والقدرة على التأثير ما لا يتوفر للإعلام التقليدي.
إذ من الواضح أنه في حمأة هذه التغيرات، التي فرضها التطور التكنولوجي وتبدل ماهية العلاقة بين المنتج للمادة الخبرية ومستهلكها (المتلقي)، لا يزال الإعلام الرسمي في العالم العربي حبيس رؤية تقليدانية، وتصور مفلس لطبيعة ووظيفة الإعلام، ولا يزال غافلا عن قصد أو من دونه، عن التحولات السياسية والاجتماعية والاقتصادية العميقة التي شهدتها المجتمعات العربية، خصوصا على مدى العقود الماضية.
الإعلام والسلطة
الإعلام الرسمي تعريفا هو ذاك المملوك للدولة أو للحكومة، ويشمل على نحو خاص القنوات التلفزيونية والمحطات الإذاعية، وصحفا هو حال لسانها. ولطالما اقترن الإعلام الرسمي العربي بالأنظمة السياسية، جمهورية كانت أم ملكية، وارتبط بها ارتباط الجنين بحبل المشيمة. هذه الصلة الوثيقة التي ارتكزت على احتكار الخبر والمعلومة ونشر الدعاية، جعلت منه بوقا للحكام، ومنبرا أثيرا للترويج على نحو فج للخطاب الواحد والأيديولوجيا الواحدة، على حساب مبدأ تعددية الآراء والتوجهات والحق في الاختلاف. وفي لجة هذه التبعية العمياء للأنظمة الاستبدادية، تحول الإعلام منذ خمسينيات القرن الماضي، إلى قلم مأجور وأداة للبروباغندا، جعلت منه بعض الأنظمة الشمولية في المنطقة، سيفا يشهر في وجه كل من اختلف في الرأي واستقل بالفكر. وكان بديهيا، ضمن هذا المنظور الضيق لوظيفة الإعلام، أن تهيمن الدولة وذيولها على وسائل الإعلام التي تدور في فلكها، وتتخذ منها درعا للدفاع عن مصالح فئوية، ووسيلة لتدجين الجماهير وتطويعها والتأثير فيها. وبهذا المعنى، فإن الإعلام الحكومي لم يضطلع بدوره كجسر للتواصل بين الدولة والمجتمع، بل أريد له أن ينحاز لطرف على حساب طرف آخر. وكان بديهيا أن يفقد خطاب الإعلام الرسمي في ظل الأنظمة الاستبدادية صدقيته ويتقلص نطاق تأثيره في الجماهير تدريجيا وتنكمش قدرته على توجيه الرأي العام.
وفي منتصف تسعينيات القرن المنصرم، شهد العالم العربي طفرة نوعية في القنوات الفضائية، التي قدمت من حيث الشكل والمضمون، محتوى إخباريا رأى فيه الكثير من الباحثين مدخلا نحو تحرير المشهد الإعلامي في المنطقة، بل وحامل لواء ثورة في الإعلام. بيد أن هذه الحماسة قابلتها قراءات أخرى اعتبرت أن الأمر يتعلق باستراتيجية جيوسياسية جعلت من وسائل الإعلام «قوى ناعمة» تستعمل في الصراعات والخصومات السياسية، كأذرع لبسط هيمنتها الإقليمية. أبعد من ذلك، ثمة من شكك، على نحو لا لبس فيه، في درجة الاستقلالية المفترضة لهذه الفضائيات عن الأنظمة السياسية.
الإعلام الرسمي والربيع العربي
شكّل الربيع العربي بمختلف نسخه ومحطاته الجغرافية، علامة فارقة في تاريخ المجتمعات العربية، إذ أنه حرك المياه الراكدة وحرر العقول والذهنيات، وأفرز واقعا سياسيا ومجتمعيا جديدا يقوم على مبدأ الحرية وإعلاء قيم الديمقراطية. ولعل المراقب الحذق لأداء الإعلام الرسمي وتغطيته لموجة الاحتجاجات الشعبية الجارفة في مختلف عواصم العالم العربين من المحيط إلى الخليج، وقف على حقيقة أن هذا الإعلام ظل حتى الرمق الأخير من عمر الأنظمة الشمولية، مقيدا بالضوابط نفسها، ومروجا باللغة الجوفاء نفسها لخطاب يناقض الوقائع على الأرض ويتعامى عن الحقائق، في توجه يعبر عن حالة انفصام وانسلاخ عن الواقع وإهانة لذكاء المتلقي. لقد فات من يحرك خيوط الإعلام الرسمي أن الثورة الرقمية غيرت المفاهيم وزعزعت اليقينيات. إذ كان لتقنيات وسائل الاتصال الحديثة قصب السبق في تعبئة وتوجيه الشارع العربي، في ظل تعدد وتنوع المصادر، وأضحت منصات التواصل الاجتماعي على شبكة الإنترنت وسيلة تعبير جماهيري جديد متحرر من سلطة الدولة وخارج نطاق رقابتها (مع ضرورة الإقرار بغياب ضوابط تقنن استعمال وسائل التواصل الاجتماعي في العالم العربي وغياب التشريعات ذات الصلة). وجاء الإعلام الجديد ليكسر هيمنة الدولة على الخبر، وبات أداة فعالة في النضال والتعبئة السياسية. وكان لافتا للانتباه أيضا أن وسائل التواصل الاجتماعي باختلاف تعبيراتها غيرت سلوك وأنماط استهلاك المعلومة.
تشير تقديرات منظمة «صحافيون بلا حدود» إلى أن عدد مستعملي فيسبوك في نهاية عام 2010 بلغ نحو ستمئة مليون، بعد أن كان في حدود مئة وخمسة وسبعين مليون سنة 2010. وكان من تبعات ظاهرة استعمال عامة الناس شبكات التواصل الاجتماعي، لإشاعة الأخبار والمعلومات المرتبطة بالحراك الشعبي في كل من مصر وتونس مثلا، ظهور مفهوم المواطن الصحافي، الذي اتخذ من هاتفه الذكي وسيلة لنقل الاحتجاجات الشعبية، ورفد مواقع الإنترنت والقنوات الإخبارية بمقاطع الفيديو والصور، بعيدا عن عيون الرقابة وجبروت السلطة، رغم مساعيها للتحكم في صبيب وتدفق الإنترنت وتطويرها، في مرحلة لاحقة، استراتيجيات تروم التأثير في وسائل التواصل الاجتماعي بنية التحكم فيها والتدقيق في طبيعة وفحوى محتواها. وبذلك بات الإنترنت، مع اتساع نطاق قاعدته الجماهيرية، يوفر هامشا للتعبير متحررا نسبيا من قيود وإكراهات سلطة السياسة والاقتصاد المزدوجة في العالم العربي.
العودة إلى مربع البداية
لكن دينامية التغيير التي لفحت رياحها المنطقة العربية كنتيجة للحراك الشعبي المتطلع إلى دمقرطة الممارسة السياسية والقطع مع الاستبداد والفساد، سرعان ما اصطدمت بنوع من الردة وبتصميم الدولة العميقة على إجهاض مشاريع ومسلسلات الانتقال الديمقراطي حتى إن اقتضى الأمر إغراق البلاد في الفوضى والزج بها في أتون الحروب الأهلية. وترتبت عن ذلك كله عودة لمنطق الرقابة والتحكم في وسائل الإعلام الرسمية، وسعي علني لتحجيم دور وسائل الإعلام الجديدة في عملية الإصلاح السياسي، وتجذير ثقافة الديمقراطية، واحترام تعدد الآراء والاتجاهات، وتعزيز قيم المشاركة السياسية والمساهمة في صنع القرار السياسي.
بديهي والحالة هذه أن مأزق الإعلام الرسمي وثيق الصلة بأزمة الأنظمة السياسية نفسها. فالمتأمل للمشهد الإعلامي في مرحلة ما بعد الربيع العربي، يلحظ تعددية لا تخطئها العين، من حيث كثرة المنابر خصوصا في القطاع السمعي البصري، بيد أن هذه التعددية لا تعكس بالضرورة حركية المجتمعات العربية، ولا تعبر عن تعدد الآراء والتوجهات السياسية، وبالتالي عاد إلى الواجهة بشكل أكثر إلحاحا سؤال استقلالية وسائل الإعلام عن صاحب القرار السياسي والاقتصادي، والأهم من كل هذا وذاك سؤال الإرادة السياسية لدى أصحاب القرار في جعل الإعلام رافدا للتنمية.
خلاص
أثبتت مختلف تجارب الانتقال الديمقراطي عبر العالم (إسبانيا نموذجا) أن الإعلام لن يكون بمقدوره لعب دوره كاملا في مواكبة مسارات التحول الديمقراطي والمساهمة في إنضاج شروطه، ما دام تابعا للدولة ومرهونا لها ماليا وتحريريا. وفي عالمنا العربي، حيث تخاصم النخب مبدأ التداول على السلطة، يحتاج الإعلام الرسمي إلى مراجعة جذرية لوظائفه وطبيعة أدواره في المجتمع. ويقتضي الأمر على نحو ملح إصلاحا عميقا لوسائل الإعلام الرسمية وتطويرها، على الصعد التقنية والتشريعية والمهنية، وتخليصها من سطوة الرقابة الحكومية. وبات جليا أن سيطرة الدولة على وسائل الإعلام التابعة لها، لم تعد مجدية في ظل تراجع منسوب تأثيرها واتساع القاعدة الجماهيرية لوسائل التواصل الاجتماعي وقد غدت بفضل قدرتها التفاعلية إعلاما بديلا للإعلام الرسمي التقليدي.
كاتب مغربي