ثقافة وفنون

خطاب الاستعجال

خطاب الاستعجال

توفيق قريرة

ما نعنيه بخطاب الاستعجال في هذا المقال هو أن يصدر الإنسان قولا يرمي من خلاله إلى تسريع وقوع حدثٍ ما، أو الحث على تعجيله، استنادا إلى توقع أو رغبة في تحقّقه قريبا. وفي القرآن كثير من هذا الضرب من الخطاب، سواء تعلق بتكذيب غير المؤمنين بأشياء ومعلومات في الرسالة، كوجود يوم للعقاب في الآخرة؟ أم تعلق بالرغبة في شيء محبوب يراد أن يقع قبل أوانه.
من نماذج حديث المستعجلين المكذبين للعقاب قوله تعالى في (سورة العنكبوت: 53 ، 54) «ويستعجلونك بالعذاب ولولا أجل مسمى لجاءهم العذاب وليأتينهم بغتة وهم لا يشعرون يستعجلونك بالعذاب وإن جهنم لمحيطة بالكافرين» وقوله تعالى: (ص: 16) «وقالوا ربنا عجل لنا قطنا قبل يوم الحساب» أي: حسابنا وعقابنا، أو قوله تعالى في سورة الرعد (6) «وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ». الاستعجال في هذا المعنى هو قول محمول على شوق، يرتبط بطلب تقدمة وقوع حدث يفترض أن يحدث أو لاحقا. ففي قوله «يستعجلونك بالعذاب»، طلب من لم يؤمن بوجود عذاب في الآخرة بحدوثه رغبة في تفنيده وإمعانا في تكذيبه. ما يعنينا من الناحية اللسانية أنّ «يستعجلونك بالعذاب» هي جملة تلخص قولا أو طلبا يفيد مضمونه ومن الممكن أن يكون القول «هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين؟»، أو «نريد أن نرى هذا العذاب الآن». هذا القول يطلب حدوث القيامة قبل أجل حدوثها، وهو طلب يحوي منطقه في ذاته، لأنّ من كذّب بأنّ في الآجلة عذابا ينبغي أن يكذّب بها موعدا أصلا، ومن اعتقد في استحالة وجود حياة بعد هذه لأنّ ذلك غير ممكن عقلا؛ وأنّ من سيوجدها لاحقا يمكن أن يوجدها في أيّ لحظة حتى راهنا لقدرته على فعل ذلك جدلا. لكنّ هذا الجدل داخل في سياق يحكم عليه إيمانيا بأنّه مضلّ أو غير مؤمن بما سطّر من أحداث في الآجلة. فمنطق من يؤمن هو غير منطق المكذب المستعجل، ولذلك لا يكون حديث الاستعجال هنا استباقا لما سيأتي في ميعاده، وإنما هو تكذيب لإمكان وقوعه لأنّه لو كان ممكن الوقوع لحدث عند الطلب.
قال القرطبي في تفسيره: «قوله تعالى: (ويستعجلونك بالعذاب) لما أنذرهم بالعذاب قالوا لفرط الإنكار: عجل لنا هذا العذاب. وقيل: إنّ قائل ذلك النّضر بن الحارث وأبو جهل حين قالا: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. «إنّ ذكر اسمي النضر وأبي جهل مفيد باعتبار تاريخي، لأنّهما متحدثان واقعيان ومستعجلان بوقوع العذاب في التاريخ، فهما من الناحية اللسانية متلفظان أصدرا كلاما مضمونه استعجالي (أن أمطر علينا حجارة من السماء). هذا القول لا يمكن حمله على الدعاء بالمعنى الإيماني للعبارة، فهم لا يدعون على أنفسهم، وإنما يستعجلون حدوث العذاب بشكل من أشكاله التي يتصورون أنّ العذاب في الآخرة سيكون على تلك الصورة. قد تكون هذه هي الصورة الطرازية التي يعتقد المستعجل أنّها تكون عذابا في الآخرة. وقد يفيدنا ذلك شيئا في تنميط اعتقاد الناس وقتها في أشكال العذاب، فليس مشهد الإحراق بالنار واردا، كما بات مهيمنا على التصور الذي خلقه القرآن بعد ذلك. هذه الصورة المتخيلة من العذاب مستمدة من طيور الأبابيل التي ترمي جند أبرهة بحجارة من سجّيل (سورة العصر 2 ـ 4). يمكن القول إنّ مشهد العذاب في الآخرة هو مشهد من جهة كونه صورة تمثيلية قد نمط في إلقاء الحجارة من السماء، ولم يوصف على أنّه انتقال بالروح إلى عالم الآخرة بعد الموت وتعذيبها بالنار، مثلما نراه في مشاهد العذاب في الجحيم. إنّ حديث الاستعجال هنا أفاد لو صدق قول القرطبي تصوّرا ما قبليا للعذاب في الآخرة، يتمثل في أنّ الإنسان لا يغادر الحياة، وإنما يسلط الله عليه الموت والعقاب وهو ملازم دنياه لا يغادرها.
أمّا الضرب الثاني من حديث الاستعجال وهو لطلب شيء محبوب قبل حدوثه فنجده في قوله تعالى مخاطبا رسوله: «لا تحرّك به لسانك لتعجل به» (القيامة ـ 16) في هذا المقال تفسيرات كثيرة لا نروم الخوض فيها، إلا من وجهة العلاقة بين التمثل (الوحي) والنطق بما يوحى؛ وفيه ضرب من تشوق وتسريع، إذ يراد للكلام المتمثل أن ينجز سريعا حتى لا يطويه النسيان وهذا يترجم من جهة إنجاز الكلام بأن يحدث نطق الكلام أسرع من عادته المألوفة حتى لكأنّ لحظة تنشيطه في الدماغ تتمّ في الآن نفسه الذي يتمّ فيه النطق، ولكن تريد المشيئة الإلهية لهذا الكلام الموحى أن ينجز في الظروف العادية التي ينجز بها البشر الكلام، فلئن كان الوحي تمييزا للأنبياء فإنّ النطق بما يوحى من كلام ينبغي أن يسير على نهج كلام الناس العاديّين لأنّهم هم من يتلقونه.
لو تناولنا إدراكيا خطاب الاستعجال لتوصلنا إلى جملة من النتائج من بينها، أنّ هذه الرؤية تتجلى في تصور استعاري مفاده، أن الكلام قوة فاعلة في العالم وهذا ما يُفسر قول المستعجل «ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا»، وكأنّهم يظنون أن النطق بذلك سيجعل الحدث واقعا كفلق الفجر، ثمّ إنّ الاستعجال يمكن أن يكون تعبيرا عن تشوّق للحدوث كما في حالة النبي مع الوحي ففيه: انتظار طويل أو مثقل وحرص على عدم ضياع الفرصة، وإدراك للزمن بوصفه مهدِّدا افتراضيا لخروج الوحي من طور التمثّل الذهني إلى الإنجاز القولي. إنّ وراء ذلك تصوّرا للزمن والحدث، يُعامَل فيه الزمن كما لو كان عنصرا ماديا قابلا للضغط أو الجذب.
في خطاب الاستعجال المشتاق لوقوع الحدث، أو المكذب له إدراك لحركة الزمن غير الحقيقية، وتحويل لوجهته لأنّ الاعتقاد يسود بأنّ الزمن شيء يتحرّك نحونا، أو نُحرّكه بواسطة خطاب الاستعجال، فخطاب الاستعجال أداة ضغط في حالات التحدي (استعجال الكافرين للعذاب)، أو حتى في حالات التعبير عن رغبة. إنّه يستخدم في الحالة الأولى، حالة التحدي، على أنّه فعل تداولي للتكذيب أو الاستفزاز، أي أنه: قولٌ يُراد به إرباك الطرف الآخر، أو تقويض سلطته. هذه الآيات تُعيد الإنسان إلى موقعه الصحيح في الكون: مخلوق يعيش في دائرة الانتظار، ويغادر دائرة السيطرة. هذا التصور يعكس نوعا من الوعي السحري أو الإيماني، بأن العالم لا يتحرك إلا بإشارة ما، ويمكن للكلام أن يكون تلك الإشارة. في الخطاب القرآني، يُفهم الكون على أنه: نسق من الأحداث المرتبطة بقدر معلوم وزمن مقدّر، كما في قوله تعالى: «وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ» (الرعد: 8). ففي هذا الإدراك الكوني، لا تحدث الأمور اعتباطا، بل تسير وفق نظام محكم خارج عن سلطة الإنسان. لكن في خطاب الاستعجال، يظهر نوع من محاولة خرق هذا النسق أو التفاوض معه.
خطاب الاستعجال يعكس توترا شديدا بين الإرادة البشرية وإدراك الإنسان للكون، فهناك حدّ دائم بين رغبة إنسانية تشتهي ونظام قدريّ لا تسيّر فيه الأشياء والأحداث كما يشتهي الإنسان. يعبّر خطاب الاستعجال عن الضغط النفسي الذي ينجم عن توتر في خبايا النفس، بأن يحاول الإنسان التدخل في النظام الكوني، عبر الكلمة، كأنّه يستطيع أن يُعجّل بما لا يقع إلا في وقته..
أستاذ اللسانيات بالجامعة التونسية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب