
مصطفى حسين: سنوات مصرية مع الكاريكاتير

مروة صلاح متولي
مع رسومات مصطفى حسين الكاريكاتيرية عشنا وعاشت أجيال من قبلنا، واستمتعنا بشخصياته وأفكاره وانتقاداته الذكية ولمساته الساخرة، فلم يكن الفنان الراحل يرسم على صفحات الجرائد فقط، وإنما كان يرسم البسمة على شفاه ملايين المصريين يومياً لعقود متتالية، ويشاركهم همومهم ومشاغلهم ويعبر عن قضاياهم، وربما يلعب دور الوسيط بين الشعب والسلطة، حيث كان يحظى بعلاقة جيدة مع الطرفين. كان مصطفى حسين محبوباً من الشعب، وكانت رسوماته جزءاً مما يشاهدونه ويقرأونه يومياً، وكانت شخصياته المتعددة التي أبدعها قريبة ومألوفة لدى الجمهور، يعرفونها جيداً ويحفظون ملامحها وأسماءها، كذلك كان مصطفى حسين محبوباً من السلطة بمستوياتها كافة، يتقبل كبار المسؤولين ظهورهم في رسوماته وما يوجهه إليهم من انتقادات ساخرة.
عاش مصطفى حسين في الفترة من عام 1935 حتى عام 2014، وإلى جانب موهبته الفطرية الأصيلة درس في كلية الفنون الجميلة، وهو تشكيلي أيضاً، بالإضافة إلى كونه رسام كاريكاتير، وإن استحوذ فن الكاريكاتير بالطبع على القسط الأكبر من وقته وإنتاجه. تتلمذ في مدرسة «أخبار اليوم» العريقة على يد قطبي الصحافة المصرية مصطفى أمين وعلي أمين، وكان ابناً وفياً لتلك المدرسة الصحافية الكبيرة، ونجماً من نجومها اللامعين الذين لن تنساهم الذاكرة المصرية. أما بدايته فكانت في دار الهلال عام 1952، ورسم لعدة صحف ومجلات كـ»المصور» و»آخر ساعة» و»المساء» و»حواء» و»الكواكب»، إلى أن استقر في جريدة «الأخبار» حتى وفاته. نال عدة جوائز منها جائزة علي ومصطفى أمين، وجائزة الدولة التقديرية، وجائزة مبارك في الفنون، كما شارك في عدة معارض عالمية بالإضافة إلى الكثير من المعارض المحلية.
في عصر حسني مبارك
ربما كانت أكثر فترات مصطفى حسين شهرة وتألقاً خلال عصر الرئيس الراحل محمد حسني مبارك، حيث كان هناك هامش من الحرية، بغض النظر عن الاختلاف حول ما إذا كان ذلك الهامش كبيراً أم صغيراً، كافياً أم غير كاف، لكنه كان موجوداً على كل حال، بالإضافة إلى الحرص على إفساح السبيل لوجود متنفس ما هنا أو هناك، وعدم منع وصول المتعة الذهنية والفن الجيد والترفيه إلى الشعب، في بلد كان زاخراً بالمواهب الحقيقية في جميع المجالات، وأجيال نشأت على الجدية والإتقان ومنظومة من القيم تدرك أهمية الفنون في حياة الدول والشعوب. عاصر مصطفى حسين الكثير من الفترات المهمة في تاريخ مصر، وكذلك تاريخ المنطقة العربية والعالم، ورغم أنه كان مصرياً خالصاً تتركز الغالبية العظمى من أعماله على مصر وعالمها الداخلي وأحوال الشعب المصري، إلا أنه لم يكن يهمل الأحداث الكبرى التي تفرض وجودها على الأخبار، وعلى الاهتمام المحلي. كذلك عاصر مصطفى حسين كبار الوزراء والمسؤولين السياسيين في مصر، وكان على اتصال بالكثير منهم، وكان معظمهم مادة لريشته يظهرون في رسوماته الكاريكاتيرية، وعلى رأسهم رئيس الوزراء الراحل عاطف صدقي، الذي كان يجلس إليه «فلاح كفر الهنادوة» ليشكو إليه الحال والمآل، ويوجه إليه النقد المغلف بالسخرية والفكاهة، كما جلس فلاح كفر الهنادوة إلى رؤساء وزراء آخرين أتوا بعد عاطف صدقي. وتعد شخصية فلاح كفر الهنادوة من أشهر شخصيات مصطفى حسين، وهي رغم البعد الزمني الشاسع والاختلاف الفني الكبير، تذكرنا بشكاوى الفلاح الفصيح عند أجدادنا الفراعنة.
لم يكن يعترض أحد من الوزراء على أن يرسمه مصطفى حسين، ونادراً ما حدث بعض الخلافات، فكان الفنان الراحل يبدع وينتج يومياً في أجواء هادئة مستقرة بدرجة كبيرة. كانت لمصطفى حسين مواقفه ومبادئه التي التزمت دائماً بالخط الوطني العام ولم تحد عنه، ولم تعرف مسيرته الفنية صدامات حادة مع السلطة، ربما حدث شيء من خلاف بسيط مع أحد الوزراء، كان ناتجاً عن سوء فهم وتم تدارك الأمر. كان طبيعياً في ذلك الوقت أن يلتقي مع غيره من الفنانين بالرئيس الراحل محمد حسني مبارك، سواء في معرض الكتاب من كل عام، أو في غيره من المناسبات المصرية المهمة. يروي مصطفى حسين في أحد حواراته التلفزيونية، أنه عندما التقى بالرئيس مبارك للمرة الأولى، سأله مبارك مازحاً: «إنت طويل قوي كده ليه؟» فأجابه الكاريكاتيري الماهر: «والله ما أقصدش يا فندم». كان الوئام سائداً إذن بين مصطفى حسين والسلطة في معظم الأوقات، لكن ذلك الوئام كان مناخاً جيداً للإبداع الذي لا شك في جودته من النواحي الفنية، وكذلك لا يستطيع أحد أن ينكر جدية هذا الإبداع في مناقشة قضايا الوطن الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بشكل عميق وحقيقي، دون سعي لخلق الصدام واصطناع البطولة، اجتمعت في ذلك رؤية مصطفى حسين مع رؤية رفيق الدرب والمشوار أحمد رجب الكاتب الصحافي الساخر، الذي يعد من أكبر الأسماء في مجال الكتابة الساخرة في مصر.
الرسم والكلمات
لسنوات طويلة وبشكل يومي تشارك مصطفى حسين مع أحمد رجب في صياغة الأفكار والكلمات، أما الرسم فاختص به مصطفى حسين وحده بطبيعة الحال، وكما كان يتم انتقاد الحكومة والدولة والوزراء والمسؤولين من كبيرهم إلى صغيرهم، كان يتم انتقاد الشعب أيضاً والنفاذ إلى مشكلاته التاريخية المزمنة، وأمراض المجتمع المستعصية، من خلال أنماط وأخطاء وسلبيات شائعة، كما في شخصية «عبد الروتين» ذلك الموظف الذي يعبد الروتين والنظام التقليدي، ويتبعه بحذافيره، كما هو نصاً جامداً، وإن أدى ذلك إلى تعطيل العمل برمته وإيقاف أحوال البلاد والعباد، فهو يعمل من أجل حياة الروتين، ولا يهمه أن يموت أي شيء آخر. وكذلك شخصية «عبده مشتاق» ذلك الرجل المشتاق التواق إلى الحصول على أي منصب وزاري، وتولي أي مسؤولية في الدولة، فهو باحث مستديم عن السلطة مهووس بها، لكنه لا ينالها ويظل مشتاقاً طوال الوقت. وكذلك شخصية «قاسم السماوي» الحاقد الناقم على كل شيء، وشخصية «مطرب الأخبار» المطرب البائس الفاشل صاحب الصوت السيئ، الذي يتعرض للضرب من الجمهور كلما فتح فمه ليغني، إلى درجة أن اقترن عنده الغناء بالضرب، واعتاد أن يسيل دمه، وأن يخبر أصحاب الفرح بفصيلة دمه قبل الاتفاق الذي يشمل الأجرة والمستشفى أيضاً. كما تضمنت سلسلة «الحب هو» الكثير من الأفكار اللطيفة حول الحب تفاصيله وتعقيداته وتناقضاته، وفيها كان يرسم مصطفى حسين رجلاً وامرأة دون تحديد ملامح أو أسماء الشخصيات.
يعتبر فن الكاركاتير كما هو معروف من أسرع الفنون وصولاً إلى المتلقي التي لا تتطلب وقتاً لقراءة أو استماع أو مشاهدة، فالرسومات واضحة الدلالة، مكثفة المعاني تعلن رسالتها مباشرة، وتفصح عن فكرتها بأسلوب بصري جمالي فيه المبالغة والسخرية والنقد، والسخرية هنا قد تكون لاذعة مضحكة، وقد تكون مريرة مؤلمة. يعتمد فن الكاريكاتير بشكل أساسي على الرسم، وأحياناً يضع الرسام عنواناً لرسمته ويكتب كلمة أو كلمتين، وأحياناً تأتي الرسمة، من دون كلمات على الإطلاق. هكذا كان الحال لدى مصطفى حسين في بعض أعماله، لكن نظراً لشراكته الطويلة مع الكاتب الساخر أحمد رجب، كانت تأتي الرسومات أحياناً مليئة بالكلمات التي تكاد تصل إلى فقرة كاملة مكونة من عدة سطور، فتميزت تلك الأعمال بأنها تقدم للجمهور متعة الكاريكاتير البصرية، مع الاستمتاع والتلذذ في الوقت ذاته بالكلمات اللطيفة الرشيقة المضحكة.
كانت ريشة مصطفى حسين بارعة في رسم الشخصيات، يعبر كل خط منها عن سمات وطبيعة وسلوك الشخصية، من تعبيرات الوجه إلى شكل الجسد، وما يتخذه من جلسة أو وقفة أو انحناءة، وكذلك الملابس التي تكون دالة ومعبرة كما في شخصية فلاح كفر الهنادوة وعزيز بك الأليت والكحيت، على سبيل المثال. وفي شخصية الكحيت تحديداً، كان مصطفى حسين يخلق تناقضاً هائلاً وتنافراً مضحكاً بين ملابس الكحيت المهلهلة الممزقة حيث يكاد يكون عارياً، ومن جلسته عندما يضع ساقاً فوق الأخرى، وانفصاله عن الواقع ونوعية الأخبار التي يهتم بها، كما لو كان من كبار الأثرياء ورجال الأعمال.
عايش الجمهور هذه الشخصيات لسنوات طويلة، وتحولت إلى أنماط معروفة وأسماء دالة في المجتمع، يستخدمها الناس في الوصف والتندر والتعبير عن رأيهم في شخص ما، فعندما يظهر شخص حقود مثلاً يقال عنه قاسم السماوي، وكم من برلماني أطلق عليه اسم كمبورة، وكمبورة من شخصيات مصطفى حسين أيضاً، وهو عضو مجلس الشعب الفاسد الذي يحظى بالحصانة البرلمانية، ويحتمي بها ويتستر خلفها ليعيث فساداً كما يشاء، وكذلك شخصية «عباس العرسة» الذي بات اسمه ماركة مسجلة يطلق على الموظف المنافق المتسلق صاحب الوجوه الكثيرة المتلونة، وفي رسومات هذه الشخصية تحديداً نجد أقصى درجات المبالغة في النفاق، بصورة مؤسفة قد تثير الغثيان. تم تجسيد هذه الشخصيات في حلقات مسلسل «ناس وناس» الذي عرضت أجزاؤه في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات، لكن المسلسل لم يستطع أن ينافس الرسومات الكاريكاتيرية والشخصيات المرسومة على الأوراق، وكان مصطفى حسين يرى أنه كان من الأفضل أن يتم تجسيد الشخصيات من خلال أفلام وحلقات الرسوم المتحركة أو العرائس.
كاتبة مصرية