صفورية.. المُهجّرُ أبو رجب (94 عاما) يستذكر عملية “ديكل” واجتياح الميليشيات الصهيونية
صفورية.. المُهجّرُ أبو رجب (94 عاما) يستذكر عملية “ديكل” واجتياح الميليشيات الصهيونية
يستذكر المُهجّرُ أبو رجب “هجوم ميليشيات (الهاغاناه) و(شطيرن) و(إيرغون) على صفورية، لم يكن نقص في الرجال، بل في الأسلحة، رجال صفورية ساهموا في المقاومة عام 1936 في الحليصة بحيفا، وعين غزال، والطنطورة، وعكا، وطبرية”.
تُعد نكبة العام 1948 من أكثر الأحداث مأساوية في التاريخ الفلسطيني الحديث، إذ شهدت تهجير مئات آلاف الفلسطينيين من مدنهم وقراهم، وتحويلهم إلى لاجئين داخل وطنهم وخارجه. ومن بين البلدات التي طالتها يد التهجير والدمار برزت صفّورية الواقعة شمال مدينة الناصرة في منطقة الجليل، شمالي البلاد، والتي كانت تُعرف بجمال طبيعتها وغنى تراثها وتماسك نسيجها الاجتماعي.
كانت صفّورية من أكبر قرى قضاء الناصرة، وهناك تضارب في المعلومات حول عدد سكان القرية عشية النكبة، فمنهم من قال بنحو أربعة آلاف نسمة ومنهم من يعتقد بأن العدد كان أكبر بكثير.
سكنتها عائلات فلسطينية عريقة، شكّلت النواة الاجتماعية والاقتصادية للقرية. عُرفت صفّورية بأراضيها الزراعية الخصبة، وخاصة في زراعة الزيتون والتين، نظرا لوجود عدة ينابيع فيها أهمها القسطل. كما ضمّت معالم تاريخية بارزة مثل القلعة البيزنطية والكنيسة القديمة على اسم القديسة حنّة.
في شهر تموز/ يوليو 1948، اجتاحت الميليشيات الصهيونية القرية في إطار عملية أطلق عليها اسم “ديكل”، ما أدى إلى تهجير معظم سكانها بالقوة، بينما اضطر البعض للجوء إلى الجبال المحيطة أو النزوح إلى البلدات المجاورة مثل الناصرة. شهدت صفورية خلال هذا الهجوم عمليات قصف واعتقالات، وفُرض على من تبقى من السكان التهجير لاحقا تحت التهديد.
أحمد أمين أبو رجب (أبو الأمين) البالغ من العمر 94 عاما، هو واحد من أهالي صفورية القلائل الذين عايشوا النكبة، وما زالوا على قيد الحياة، كان شاهدا على عملية اجتياح القرية من ثلاثة محاور، هذه العملية التي سبقها قصف بالطائرات، ساعة رفع آذان المغرب في يوم العاشر من رمضان من ذلك العام.
منذ أن غادرها يأبى أبو الأمين إلا أن يتنفس هواء صفورية النقي، ويطرب لخرير الماء في القسطل، ويشده الحنين إليها، لذلك فهو يرفض الانقطاع عنها كما لا ترضى هي الانفصال عنه!
“عرب 48” التقى أحمد أبو رجب، حيث مكانه الطبيعي في القسطل الذي يقصده صبيحة كل يوم إضافي تمنحه له الحياة، كما يقول، فهو من مواليد عام 1931 ومسقط رأسه الحارة الغربية لقرية صفورية.
ردا على سؤال حول ما إذا كان البيت ما زال قائما، قال أبو الأمين إن “مكان البيت تحوّل إلى أحراش تماما كالأحراش التي تراها هناك مقابلك، البيوت محيت وتم تجريفها ولم يعد لها أي أثر، وهكذا هو حال كل القرية ليس فقط الحارة الغربية. هدمت بالكامل في بداية سنوات الخمسين، كانت صفورية قرية كبيرة، وقد تم استدعاء 10 – 12 بلدوزر عملت لمدة شهور طويلة على هدم بيوت القرية ومن ثم تجريفها بالكامل بحيث لم يعد لها أثر”.
وعن عملية هدم بيت عائلته التي انتقلت للسكن في مدينة الناصرة المجاورة، قال أبو الأمين إنه “يوميا كنت أصل إلى صفورية لمشاهدة عمليات الهدم التي تجري، وقد كنت شاهدا على هدم بيت عائلتي، وأيّة مشاعر من الألم والحزن الشديد والعجز كانت تنتابني وأنا أرى بيت جدي وجدّ جدّي تهدم أمام ناظريّ”.
وردا على سؤال حول الشعور بالعجز وقلة الحيلة وعدم القدرة على حماية البيت، قال أبو الأمين إنه “ما يؤلم أكثر هو أننا لا زلنا حتى اليوم نعيش هذا الشعور بالعجز، ولم يتغير أي شيء، وها هي غزة تهدم فوق رؤوس ساكنيها.. من يستطيع أن يحمي سكانها؟ فالشعور بالعجز ما زال يرافقنا حتى اليوم والشيء الوحيد الذي تغير هو وسائل الإعلام حيث بات العالم يشهد على هذه الجرائم بالبث المباشر، بينما لم يكن هناك أية توثيق لأحداث النكبة وما رافقها من مجازر وجرائم قتل لتصل إلى العالم كما هو الحال اليوم. كانت وسيلة الاتصال الوحيدة هي المذياع (الراديو) التي لم يتوفر إلا القليل منها في كل قرية، وكانت تعمل بواسطة البطاريات، وهي الوسيلة الوحيدة التي كانت تربطنا مع العالم”.
وعما تحمله ذاكرته من أحداث النكبة في صفورية، قال أبو الأمين إنه “كنت حينها في السابعة عشرة من عمري، وأذكر حينها أننا كنا في ليلة العاشر من رمضان، وكان وقت إفطار حين بدأت الطائرات تقصف القرية، ثم بدأت عملية اجتياح القرية من ثلاثة محاور، من شفاعمرو ومن اتجاه بيت لحم الجليلية عبر كفار هحورش التي كانوا يسمونها القعقور، كانت 3 ميليشيات تجتاح القرية (الهاغاناه) و(شطيرن) و(إيرغون) وهاجموها معا، ولم يكن هناك نقص في الرجال، ولكن النقص بالأسلحة، فقد كان لرجال صفورية دور كبير في المقاومة في عام 1936 في الحليصة بحيفا، وفي عين غزال والطنطورة وعكا وطبرية وصفد في كل مكان قاوم جيش صفورية. كما قاوم رجال صفورية الاحتلال عام 1948 بإمكانات محدودة منذ ساعات المغرب حتى الفجر إلى أن نفدت الذخيرة، وقد سقط عدد من المقاومين من بينهم ابن عمي إبراهيم”.
وأكد أبو الأمين بأن “إمكانات المقاومة كانت ضعيفة ليس فقط في صفورية، بل في كل البلدات العربية في حين أن الجيش الإنجليزي حين سلّم البلاد لليهود وانسحب ترك للجيش الإسرائيلي كل عتاده. كان في رمات دافيد مطار عسكري وفي اللد مطار مدني وأكبر المعسكرات التي تخلى عنها الإنجليز لصالح جيش الاحتلال معسكر صرفند ومعسكر الطيرة وقد غادرها الإنجليز بما فيها من طائرات وآليات عسكرية ثقيلة، وحيثما نجحت المقاومة في صد الاحتلال كان يتدخل الإنجليز لدعمه وتمكينه”.
حاول الاحتلال قبل اجتياح صفورية التفاوض مع أهل القرية حقنا للدماء وجعل القرية تستسلم، ويقول أبو رجب “أذكر من بين أعضاء الوفد الذي جاء للتفاوض بعض الأسماء منهم زايد وعوديد وفيكتور وإسكندر وشويلي وسوليمان من نهلال، هؤلاء كانوا من القادة الكبار الذين اجتمعوا مع أهالي صفورية لحثهم على الاستسلام وتسليم أسلحتهم وفتح الطريق أمامهم إلى الناصرة، لكنهم رفضوا العرض بسبب عزة نفس أهالي صفورية الذين كانت تعتمد على قوتهم وشجاعتهم معظم البلدات العربية في الشمال”.
على الرغم من تقدمه بالعمر، يواظب أبو الأمين على زيارة القرية المهجرة وقسطلها بشكل يومي. وعن مكانة صفورية في وجدانه، يقول إن “القسطل بالنسبة لي كما الكعبة والحرم المكي والقدس مسرى رسول الله بالنسبة للمسلمين، هنا مسقط رأسي، وهذا أغلى مكان على وجه الأرض بالنسبة لي، وحتى لو لم أجد من يرافقني من الأبناء والأحفاد، فإنني حين أصل إلى هنا يأتي الأصدقاء والمعارف ويتحوّل المكان إلى مضافة، وهذا المشهد يتكرر كل يوم”.
وعن حلم العودة يقول إنه في هذه السن المتقدمة لم يعد لديه حلم بالعودة، وأن عودته لن تكون إلا إلى الأرض ليوارى جسده ثراها. ويشير أبو الأمين بيده إلى حيث نبات الصبر، ويضيف: “هل ترى ذلك الصبر، هناك كانت مقبرة قديمة وبجانبها مصلى صغير له شكل قبّة، تم هدمه بالكامل، هذه الأرض هي حصة عمتي خديجة من الميراث وتبلغ مساحتها 50 دونما، وكانت حصة والدي من أراضي صفورية 211 دونما صودرت جميعها ولم يتبق لنا شبرا واحدا منها”.
وأخيرا استذكر أبو الأمين قول الشاعرين أبو سعود الديراوي وشقيقه أبو غازي، في عرس أنيس العفيفي حين قال عن صفورية “أم السبع حارات والصدر زيادة” والصدر هي المنطقة الجنوبية للقرية التي كان سكانها مختلطين من كل الحمائل، بينما “السبع حارات” في كل حارة كانت تسكن حمولة (عائلة موسعة)، ويقول إن عدد سكان صفورية بلغ 13 ألفا، لكن منهم لجأوا إليها من بلد الشيخ وتل حنان وحيفا وعكا، ولم يتم تسجيلهم في البلدية.