في الذكرى الـ77 للنكبة

في الذكرى الـ77 للنكبة
ألقت الطائرات الإسرائيلية – أميركية الصنع – حتى الآن 100 ألف طن من القنابل والذخائر الأميركية على رؤوس أهالي غزة العرب الفلسطينيين، فقتلت وجرحت وشوّهت زهاء 200 ألف إنسان، بينهم عشرات آلاف الأطفال والنساء والشيوخ…
علمتنا أبجديات التراث السياسي الفلسطيني والعربي، الذي راكمه عشرات وربما مئات المؤرخين والمنظرين الذين اهتموا بالقضية الفلسطينية، أن تضافر ثلاثة عوامل أو تحالف ثلاثة أطراف رئيسية، هي الصهيونية والقوى الاستعمارية والرجعية العربية، هو الذي أدى إلى النكبة الفلسطينية أو “النكبة العربية الكبرى” كما أسماها البعض، بما يؤكد الدور الأساسي والمتساوي لما اصطلح على تسميتها بـ”أنظمة الرجعية العربية” التي تواطأت مع الصهيونية والقوى الاستعمارية في التسبب بالنكبة.
ولا غرابة أن تأتي ثورة 23 يوليو، التي تمظهرت في الانقلاب العسكري الذي قاده مجموعة من الضباط الصغار في الجيش المصري عام 1952، بعد أربع سنوات فقط من حصار عبد الناصر في الفالوجة، وهزيمة الجيوش العربية التي كشفت النكبة تواطؤ قيادتها وفساد أسلحتها، وعرّت أنظمتها وعجّلت بسقوط غالبيتها العظمى في انهيار “الدومينو” الذي أحدثته الثورة المصرية التي قادها جمال عبد الناصر.
وحتى بعد فشل ما سُمّي بالتجربة القومية في إصلاح خطأ 48، وانكفائها بعد الهزيمة الكبرى التي مُنيت بها أنظمتها عام 67، ظلّت شعارات قومية المعركة و”تحرير فلسطين يمر عبر عمّان والقاهرة ودمشق” فاعلة في “الثورة الفلسطينية” الحديثة التي قادتها الفصائل الفلسطينية المسلحة، والتي انتظمت لاحقًا في إطار منظمة التحرير الفلسطينية، بعد أن انتزعت راية تحرير فلسطين من وصاية الأنظمة.
ولن نذهب إلى ما يذهب إليه البعض في الاعتقاد بأن نشوء فصائل العمل الفلسطيني، وما رافقها من تشكّل لمنظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني – كما كان دارجًا – قد حرّر “العرب” من التزاماتهم تجاه القضية الفلسطينية، قضية العرب الأولى؛ لأن ما حدث لم يكن أن “العرب” تبنّوا سلّم أولويات سياسي جديد يركّز على القضايا القُطرية والاقتصادية ويضع قضية فلسطين في الدرجات الدنيا من الاهتمام، وهذا ربما حدث لدى كثير من الدول التي كانت صديقة أو حليفة للشعب الفلسطيني وكفّت عن ذلك، وبعضها أصبح صديقًا لإسرائيل.
لكن ما حدث مع “العرب” هو أمر مختلف، لأنهم إما قايضوا القضية الفلسطينية بمصالحهم القُطرية، كما حدث مع النظام المصري في كامب ديفيد، حيث جرى استعادة الأراضي المصرية التي احتلتها إسرائيل عام 67، مقابل تخلي مصر – كأكبر دولة عربية – عن أي حق في فلسطين، والاعتراف بشرعية الدولة القائمة على أراضيها العربية وتطبيع علاقاتها معها، بكل ما شكّله ذلك من ضربة قاصمة للكفاح الفلسطيني والعربي، بخروج أكبر أطرافه من معادلة الصراع مع إسرائيل.
النوع الثاني هو “مقايضة السلام بالسلام”، كما فعل النظام الأردني، الذي اتخذ من توقيع اتفاق أوسلو غطاء لتوقيع “اتفاق سلام” ينهي حالة “العداء” القائمة مع إسرائيل، ويعترف بشرعية وجودها ويطبع علاقاته معها. وهي الحالة التي كانت قائمة (رسميًا على الأقل) بين الأردن وإسرائيل منذ حرب 1967، التي احتلّت خلالها الأخيرة الأراضي الفلسطينية التي وقعت تحت الوصاية الأردنية بعد نكبة 48، وهي بهذا المعنى دفعت ثمنًا بالعملة الفلسطينية، كما يُقال، لأن قيمتها إسرائيليًا تنبع أصلًا من واقع تبنّيها للقضية الفلسطينية، وهي تدفع ثمن تخليها عن هذه القضية مقابل العيش بأمان إلى جانب إسرائيل.
أما النوع الثالث من “العرب”، فهم الذين اعترفوا بإسرائيل وطبّعوا علاقاتهم معها بالمجان، أي دون مقايضة ذلك بأراضٍ محتلة كما فعل نظام كامب ديفيد، أو بإنهاء حالة العداء وشراء الأمان وحسن الجوار كما فعل النظام الهاشمي، لأن دولهم لم تكن أصلًا طرفًا في حرب أو نزاع مع إسرائيل، ولا هي تجاورها. والمقصود دول ما بات يُعرف بـ”السلام الإبراهيمي” مثل الإمارات والبحرين والمغرب، والذي جاء “طوفان الأقصى” ليقطع الطريق على استكمال آخر حلقاته وأهمها، وهي السعودية، ويغلق الدائرة العربية على القضية الفلسطينية.
وكلنا يعرف أن أجندة الحكومة الإسرائيلية، الخاضعة لهيمنة اليمين الصهيوني الديني الاستيطاني، وأطماعها التي غذّاها مخطط ترامب بتهجير أهالي قطاع غزة، والذي يتطلّب مواصلة حرب الإبادة وتنفيذ التطهير العرقي تحت دخانه، هي ما يعيق تنفيذ الأحلام الإسرائيلية–الأميركية التي لم تتوقف، بضمّ السعودية إلى هذه القاطرة، وليس تعنّت الأخيرة.
وعودة على بدء، فإن إغداق السعودية ودول الخليج الأخرى مليارات الدولارات على شكل هدايا وعطايا وصفقات أسلحة وهمية على الرئيس الأميركي دونالد ترامب، في وقت يواصل فيه بقوة دعمه العسكري والسياسي اللامحدود لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على الشعب الفلسطيني في غزة، ولا يهتز له جفن إلا شفقة ورأفة ببضع عشرات من الأسرى الإسرائيليين الذين يعمل “ليل نهار” على إخراجهم من هناك قبل فتح المزيد من “أبواب الجحيم” على أهلها؛ هذا الإغداق هو خير دليل على صوابية تحليل المنظرين والمؤرخين سالفي الذكر، وتواصل وتفاقم هذا الدور التاريخي بعد 77 عامًا على النكبة.
لقد ألقت الطائرات الإسرائيلية – أميركية الصنع – حتى الآن 100 ألف طن من القنابل والذخائر الأميركية على رؤوس أهالي غزة العرب الفلسطينيين، فقتلت وجرحت وشوّهت زهاء 200 ألف إنسان، بينهم عشرات آلاف الأطفال والنساء والشيوخ، وما زالت “أبواب الجحيم” التي تنتظرهم حال فراغ ترامب من جمع المليارات في الخليج، لم تُفتح بعد. ومع ذلك، مطلوب منا أن نقول شكرًا للسعودية لأنها لم تنضم إلى “السلام الإبراهيمي” بعد، وأن نُثني على ترامب لما نعتقد أنه بوادر تحرر من القبضة الإسرائيلية بتفضيله مصلحة أميركا أولًا، وأن نشكره لأنه سيوزّع الطعام أميركيًا وبحراسة إسرائيلية في غزة الجائعة.