سمسار وليس وكيلا: ترامب يذكي النزاعات ثم يحاول تبريدها ومن النادر أن يحل أزمة

سمسار وليس وكيلا: ترامب يذكي النزاعات ثم يحاول تبريدها ومن النادر أن يحل أزمة
إبراهيم درويش
تساءلت مجلة “إيكونوميست” عن طبيعة السياسة الأمريكية بالمنطقة بعد زيارة الرئيس دونالد ترامب، وقد أشارت إلى أن الرئيس الأمريكي منشغل في الكثير من الأحداث والنزاعات بالمنطقة والعالم، ولا أحد ينكر طموحاته ونشاطه. وقالت في افتتاحيتها إن الرئيس ترامب يحول أمريكا إلى سمسار أكثر من كونها الوكيل، مشيرة إلى أن الرئيس يستخدم ولايته الثانية لتثوير أمريكا وعلاقتها مع العالم، فهو منخرط وبشكل مذهل في مجموعة واسعة من الأزمات والمفاوضات الدولية، في أوروبا وآسيا والشرق الأوسط.
ولعل هذه هي أشد جولات دبلوماسية البيت الأبيض كثافة منذ جيل. وتثير أسئلة حول ما إن كان ترامب ماهرا في عقد الصفقات كما يدعي. والجواب حتى الآن هو أنه بارع في تحفيز المفاوضات، لكنه فاشل في إنهائها.
ومع ذلك فهو لم يتخل عن طموحه ونشاطه، في 6 أيار/مايو أعلن وقف الحرب ضد الحوثيين. وفي 10 أيار/مايو زعم أنه أوقف الحرب بين الهند وباكستان، وبعد يوم التقى مبعوثه مع المسؤولين الإيرانيين لمناقشة الملف النووي.
أعلن ترامب أمام الخليج عن رفع العقوبات عن سوريا وإعادة العلاقات معها بعد 25 عاما من الانقطاع. ودفع أوكرانيا وروسيا للتفاوض المباشر في إسطنبول وكانت غزة على أجندة الرئيس
وفي 12 أيار/مايو سافر إلى الخليج، حيث أعلن أمامهم عن رفع العقوبات عن سوريا وإعادة العلاقات معها بعد 25 عاما من الانقطاع. ودفع أوكرانيا وروسيا للتفاوض المباشر في إسطنبول وكانت غزة على أجندة الرئيس [وإن بدرجة أقل]. فمن مضيق البسفور إلى نهر براهامابوترا الذي يتدفق بين الصين والهند وبنغلاديش، ظلت غريزة ترامب هي هز ما يراه معتقدات متحجرة.
فقد لوح بالقوة، وقصف ألف هدف حوثي. وفي كثير من الأحيان، يطلق التهديدات، ملمحا إلى أنه قد يضرب إيران ويبيع أوكرانيا ويزيد من ضعف حلف الناتو.
وفي كثير من الأحيان يتجاهل الصراعات التي اعتادت أمريكا التوسط فيها، مما يسمح لها بالتصعيد. وقد يسمح لإسرائيل بسحق غزة مرة أخرى ويترك الهند وباكستان في مواجهة مستمرة، حتى لمحت باكستان إلى استخدام الأسلحة النووية في 10 أيار/مايو.
كما تسببت تعرفاته الجمركية بـ 145% على الصين في صدمة تجارية وتراجع السوق المالي، وول ستريت وانخفاض طفيف في قيمة الدولار.
ومع أن التصعيد يتبعه عادة اللهجة التصالحية، حيث يلجأ ترامب إلى التقارب مع الأعداء وجمع الخصوم ويدعو لتغليب المصالح مشتركة، غالبا من خلال صفقات تجارية ورغبة مشتركة في الاستثمار.
ففي 30 نيسان/ أبريل، أبرم اتفاقية معادن مع أوكرانيا. واتسمت جولته الخليجية بصفقات ضخمة موعودة في مجال الطائرات الحربية والذكاء الاصطناعي وغيرها. وقال للهند وباكستان: “دعونا لا نتاجر بالصواريخ النووية، دعونا نتاجر” بالمال.
وتثمر براغماتية الرئيس عن نتائج. فمساعدة الحكومة السورية لتجنب الانهيار الاقتصادي هي القرار الصحيح، كما دعت المجلة منذ وقت.
وقالت المجلة إن الشرق الأوسط يرغب بالنمو، وهي حقيقة استغلها ترامب لإبرام اتفاقيات إبراهيم بين إسرائيل ودول عربية في ولايته الأولى. وقرر أعضاء حلف (الناتو) الذين صدمتهم تصريحات وسياسات ترامب من زيادة إنفاقهم الدفاعي. وتبنى مستثمرو سوق الأسهم الآن منطقه القائم على التصعيد ثم التوسط. ومن اللافت للنظر أن مؤشر “ستاندرد آند بورز 500” قد عوض خسائره بأكثر من قيمتها الحقيقية منذ انفجار قنبلة التعرفات الجمركية التي أطلق عليها “يوم التحرير” في الثاني من نيسان/أبريل.
وتعلق المجلة أن مشكلة ترامب تكمن في أنه يصعد ويذكي الأزمات، لكن من النادر ما كان قادرا على حلها.
فالصفقات التي أبرمها محدودة، مثل هدنته مع الصين التي تشمل التعرفات الجمركية على السلع، لكن الحرب التجارية تشمل نطاقا أوسع بكثير من القضايا. وكان الاتفاق التجاري مع بريطانيا في 8 أيار/مايو ضعيفا أيضا. وكذا الهدنة مع الحوثيين التي لا توجد صورة واضحة عن تفاصيلها، ولا تشمل إلا السفن الأمريكية، التي تمثل نسبة ضئيلة من حركة سفن الحاويات المتجهة عبر المياه التي يهددها الحوثيون باتجاه قناة السويس. وتشير التقارير إلى أن محادثات إيران تتناول التخصيب النووي، لكنها لا تتناول تكنولوجيا الصواريخ أو دعم إيران للميليشيات في الخارج. لذا، فهي لا تبدو أكثر شمولا من اتفاق عهد أوباما الذي ألغاه ترامب في عام 2018.
تشير التقارير إلى أن محادثات إيران تتناول التخصيب النووي، لكنها لا تتناول تكنولوجيا الصواريخ أو دعم إيران للميليشيات في الخارج
وأي سلام دائم في أوكرانيا يتطلب ردعا قويا لروسيا ولسنوات قادمة، حيث يتجاهل ترامب هذه الحقيقة الواضحة. قد تكون وربما كانت صفقات ترامب عابرة أيضا، لأنها لا تحل الخلافات الجوهرية العالقة.
فهو في العادة ما يعبر عن استعداد للتوسط في المحادثات، ونادرا ما يتصرف كضامن أو منفذ. وقد استمرت هدنة غزة التي تم التوصل إليها في كانون الثاني/ يناير، جزئيا بفضل مبعوث ترامب، ستيف ويتكوف، لمدة 58 يوما فقط. وواصل الحوثيون شن هجمات صاروخية على إسرائيل. ومدة الهدنة مع الصين هي 90 يوما. وكذا الاقتراح الأمريكي الأوكراني المقدم إلى روسيا وينص فقط على وقف إطلاق النار لمدة 30 يوما.
وتعتقد المجلة أن طريقة التفاوض التي يتبعها ترامب تحمل معها مشاكل للمستقبل. فهو لم يحل المواجهة بين باكستان والهند، بل وتحرك بعد تهديد إسلام أباد بالحرب النووية، مما يعطي الهند المبرر للضرب مرة أخرى عندما تزعم أن باكستان متورطة في الإرهاب.
وبعد توقيع الاتفاق التجاري مع الصين، تمتم ترامب بفرصة لتوحيد الصين، وهو تصريح سارع البيت الأبيض لسحبه بعد خوف تايوان.
وترى المجلة أن محدودية عقد الصفقات عند ترامب تترك آثارا بعيدة المدى على الاقتصاد والدبلوماسية، لأنها تضع مخاطر على صناعة القرار الاقتصادي، مما يثبط الاستثمار. صحيح أن أسواق الأسهم انتعشت، لكن الدولار لم يتعاف، إذ يخشى المستثمرون من الثقة بأمريكا. ويتوقع سوق الشحن تهدئة مؤقتة للتجارة الصينية- الأمريكية، والمزيد من الاضطراب في قناة السويس، لكن ليس عودة إلى الوضع الطبيعي.
وبنفس القدر تنسحب هذه الشكوك على الدبلوماسية. فقادة العالم الذين يجاملون ترامب علنا إلا أنهم يتوقعون أن يخذلهم. فتكتيكه “التصعيد، ثم التفاوض” عادة ما يسفر عن نتائج متناقصة، وستدرك دول أخرى أن أمريكا مخادعة.
فقد تنجح بعض صفقاته، ولكن على حساب إثارة حالة من عدم الاستقرار الواسع وطويل الأمد. ومن هنا تستحق أمريكا والعالم صفقة أفضل من ذلك، تقول المجلة.
وفي سياق مختلف أشارت إلى أن محاولات ترامب في رحلته الأخيرة لإعادة ضبط مسار العلاقات الأمريكية مع الشرق الأوسط ينقصها التماسك والرؤية، فهو قد يعيد النظر فيها مرة أخرى أو ينساها. ففي الوقت الذي شجب فيه إرث التدخلات الأمريكية بالشرق الأوسط، أمر البنتاغون بشن حملة واسعة ضد الحوثيين. كما وتحدث عن حق الفلسطينيين بمستقبل أفضل، لكنه كرر كلامه الغريب حول تحويل القطاع لمنطقة حرة. وفي الوقت الذي تحدث فيه عن العصر الذهبي في العلاقات الأمريكية مع المنطقة إلا أنه لم يأت بجديد، فلطالما عبر الرؤساء الأمريكيون بهذه الطريقة. فقد سبقه باراك أوباما في خطاب القاهرة عام 2009 وتحدث فيه عن بداية جديدة، ليس مع العرب ولكن المسلمين أيضا.
– “القدس العربي”: