الدبيبة «ورقةٌ رابحة»: معسكر الخصوم لا ينتج بديلاً

الدبيبة «ورقةٌ رابحة»: معسكر الخصوم لا ينتج بديلاً
طرابلس | تُظهر التطوّرات الأخيرة في العاصمة الليبية، طرابلس، تصعيداً غير مسبوق في حدّة الصراع السياسي والأمني، وسط حالة من الانكشاف المتزايد لحكومة عبد الحميد الدبيبة، التي تواجه من جهة غضباً شعبيّاً وتمرّداً مؤسساتيّاً، فيما تحاول من جهة أخرى التماسك والاستمرار، مدعومةً بمواقف خارجية نافذة وقاعدة شعبية لا تزال تراهن على الرجل بوصفه الخيار الأقلّ ضرراً.
ويبدو جليّاً أن الخطاب الأخير الذي ألقاه الدبيبة لم يأت للردّ على خصومه السياسيين فحسب، بل كان بمثابة محاولة واضحة لإعادة تعويم نفسه كحاملٍ لمشروع الدولة المدنية، في وجه تحالف ثلاثي يراه تهديداً مباشراً لمستقبله السياسي: رئيس البرلمان عقيلة صالح، ورئيس “مجلس الدولة” خالد المشري، بالإضافة إلى المشير خليفة حفتر.
ولا يمكن فصل ما تقدَّم عن السياق الأمني الذي تعيشه طرابلس، والذي بلغ ذروته بمقتل عبد الغني الككلي، أحد أبرز قادة الميليشيات المرتبطة بالحكومة. فالاغتيال لم يكن مجرّد حدث أمني، بل شكّل نقطة تحوّل، كونه أدّى إلى خلخلة التوازنات المسلحة التي كانت تشكّل جزءاً من العمود الفقري الذي تستند إليه حكومة “الوحدة الوطنية”، بقيادة الدبيبة.
ويكشف الاعتراف العلني من قِبَل الدبيبة بأن الميليشيات باتت أقوى من الدولة، عن حجم الأزمة الداخلية التي تعصف بحكومته، وهو اعتراف لم يأتِ من باب المصارحة بقدْر ما جاء لمحاولة تبرير فقدان السيطرة على المشهد الأمني، خاصة أن حكومته تتحرّك في مساحة ضيّقة بين إمكاناتها المحدودة، ومراكز قوى فعلية تفرض وقائع ميدانية قد تتعارض تماماً مع قراراتها. على أن الاستقالات التي بدأت تتسرّب من داخل مؤسّسات الحكومة، بعضها بشكل رسمي وبعضها غير معلن، تشير إلى تراجع الثقة في قدرة الدبيبة على احتواء الوضع، أو حتى على توفير مظلّة حماية سياسية وإدارية للمسؤولين الذين يشعرون بأنهم في مرمى الاستهداف الشعبي والمؤسسي، على حدّ سواء.
في المقابل، لا يمكن إنكار أن عبد الحميد الدبيبة لا يزال يمتلك أوراقاً مهمّة تجعله رقماً صعباً في المعادلة الليبية، يأتي في مقدّمها الدعم الدولي، خصوصاً من الدول الكبرى ذات النفوذ في الملف الليبي. دعمٌ، وإنْ بدا حذراً في اللغة، إلا أنه فعّال على أرض الواقع، حيث لا تزال عواصم القرار الكبرى تنظر إلى الرجل باعتباره عنصر استقرار نسبي يمكن التعامل معه حتى وإنْ كان في موقع ضعف؛ علماً أن القوى الدولية التي تتدخّل في ليبيا تبحث عن شريك يضمن الحدّ الأدنى من الاستقرار الميداني، فيما لا تجد في خصوم الدبيبة بديلاً مضموناً يمكنه تقديم ذلك من دون تكلفة أكبر.
يستفيد الدبيبة من تفكُّك معسكر الخصوم وعدم قدرتهم على تقديم بديل موحّد أو مشروع سياسي جامع
كما أن للدبيبة شبكة أنصار قوية داخل طرابلس وفي مدن الغرب الليبي، لا تزال ترى فيه واجهة مدنية تفضّلها على مشاريع عسكرية أو سلطوية تستعيد لغة الماضي. وفيما لا يبدو الرصيد الشعبي المذكور متماسكاً تماماً، لكنه كافٍ، إلى الآن، لمنع الانهيار الكامل. وفي المقابل، يسعى خصوم الدبيبة إلى استخدام ورقة الحَراك الشعبي والاحتجاجات كوسيلة لإضعاف شرعيته تدريجياً، بالتوازي مع خلق انقسامات داخل الأجهزة الأمنية التي كانت حتى وقت قريب ضمن حزام الدعم الحكومي.
أمّا الحَراك الشعبي الأخير في طرابلس، الذي أخذ شكل عصيان مدني، فليس منفصلاً عن الصراع؛ وإذا كان يعكس سخطاً حقيقيّاً على الأداء الحكومي، لكنه أيضاً يوظَّف سياسياً من قِبَل أطراف ترغب في تقويض الحكومة من دون اللجوء إلى السلاح. من هنا تحديداً، يمكن فهم دعوات التهدئة وبيانات البلديات، على أنها محاولة لضبط الإيقاع الشعبي، حتى لا ينفلت المشهد لمصلحة طرف واحد.
لكنّ المفارقة هي أن حكومة الدبيبة، وهي في أضعف حالاتها من حيث السيطرة الأمنية والتماسك الإداري، تبدو في الوقت نفسه أكثر صلابة في تعاطيها السياسي، مستفيدةً من تفكُّك معسكر الخصوم وعدم قدرتهم على تقديم بديل موحّد أو مشروع سياسي جامع، إذ، وحتى اللحظة، لا يلوح في الأفق أن عقيلة صالح أو المشري أو حتى حفتر يمتلكون القدرة على ملء الفراغ الذي قد ينجم عن إزاحة حكومة الدبيبة بالقوّة أو عبر الضغط، مع تعثّر مسار مقترح الحكومة المصغّرة بقيادة النائب العام.
على المستوى الخارجي، لا يبدو أن المجتمع الدولي مستعدّ لمغامرة جديدة في ليبيا تعيد رسم خريطة السلطة عبر العنف أو الانقلابات السياسية، وهو موقف لا يُترجم بالضرورة دعماً مطلقاً للدبيبة، لكنه يمنح حكومته مظلّة وقت إضافي لإعادة ترتيب أوراقها، بشرط أن تبدي خطوات ملموسة نحو معالجة ملف الميليشيات، واحتواء التوتّرات الداخلية، والعودة إلى مسار سياسي يخفّف من حالة الاحتقان العام.
من هذا المنظور، فإن المشهد الليبي يزداد تعقيداً: حكومة الدبيبة تتآكل من الداخل بفعل الاستقالات والضغوط، لكنها لا تنهار؛ والقوى المعارضة تكثّف تحرّكاتها، لكنها لا تتقدّم، فيما الحَراك الشعبي يتّسع، لكنه بلا قيادة موحّدة. أما المجتمع الدولي، فيكتفي بالمراقبة والبيانات، بينما يميل إلى الإبقاء على الوضع القائم، مهما كان هشّاً، على أمل عدم انفجاره.