مقالات

حرّية التعبير: الهواء الذي يتنفّسه الوعي وشرط التحرّر

حرّية التعبير: الهواء الذي يتنفّسه الوعي وشرط التحرّر

خريستو المر

ليست حرّية التعبير ترفًا، وليست مجرّد بند في دساتير تُعلّق على الجدران ولا تجد لها موطئًا في الحياة اليومية. إنّها الهواء الذي يتنفّسه الوعي، وهي التربة التي تنبت فيها أفكار الشعراء، وأسئلة الفلاسفة، وصور الفنّانين، ونداءات المناضلين. من دونها، لا تُبنى المجتمعات، بل تُكبّل وتتعفّن في صمتها. لا يحرّر الشعوب إلا صوتها، ولا يُنقذها من الغرق في الظلم إلا صراخها في وجهه.

حين يُخنق الفكر، يُغتال الحلم. حين يُمنع المسرحيّ ويُكمَّم الصحافيّ ويُهدّد المغنّي ويُسكت الشاعر، تُغلق الأسئلة. إنّ المجتمع الذي لا يضمن حرّية التعبير ليس مجتمعًا مُحرّرًا، بل تجمّع هشّ يخشى الحقيقة ويخاف صورته في المرآة؛ فمن أحشاء ثقافة أيّ شعب يولد ما يكون مرآة المجتمع التي تفضحه، وما يكون الخضّة الضروريّة للمضيّ قُدُمًا. وإن لم يكن كلّ تعبير في المجتمع يبني، فالمرجع الأوحد الذي يُحتكم إليه في هذه المسائل العامّة هو القانون، لا الأفراد ولا الجماعات، مهما صغُرَت أو عظُمت، أو توهّمت لنفسها سلطة على الذوق والأخلاق والدين والثقافة، هذه السلطة التي تعطيها لنفسها الطوائف في هذه البلاد التي تحرق نفسها بأوهامها.

لا بديل عن القانون سوى الفوضى والظلم والتشظّي، إذ نتذكّر دومًا أنّ ذريعة «الدفاع عن القيم» كثيرًا ما كانت السكين التي تمزّقت تحتها أجساد النساء ونفوسهنّ، والمختلفين، و«الغرباء» من كلّ نوع، واعتدي بها على الفنّ وحتّى على رجال الدين (الأب غريغوار حدّاد مثلًا).

هناك آلاف الأمور التي نحتاجها، وملحاحيّتها بالنسبة لمعظم المجتمع أهم من حرّية التعبير؛ هناك الحقّ بالعمل، بالعناية الصحيّة المجانيّة، بالتعليم المجانيّ، بتحرّر الأرض من الاحتلال. نعم، هذه كلّها أولويّات، ولكنّها أولويّات في الملحاحيّة وليست أولويّات في القيمة أو الضرورة. لا هذه ينبغي أن تُلغي ضرورة تلك، ولا تلك هذه. إن الحاجات هذه كلّها حاجات إنسانيّة ومتواجدة معًا في النفس بشكل دائم؛ الملحاحيّة قد تقدّم ضرورة على أخرى، ولكن لا تنفيها ولا تخفّ من شأنها. فما قيمة الإنسان أمام ذاته إن كان دون حرّية؟ ومن الضروريّ أن نتذكّر أنّ ضرب حرّية التعبير عادة ما يكون مقدّمة لضرب الحقوق الأخرى، مثل حقّ العمل، وحقّ الطبابة وحقّ التعلّم، وغير ذلك.

إنّ أشكال الترهيب التي تطال الفنانين والناشطين والمبدعين في كلّ شاردة وواردة ليست فقط تعبير عن منتهى الاستعلاء وإنّما تخالف أبسط حقوق الناس القانونيّة، أي تخالف معنى وجودنا معًا في كنف دولة

لا ينبغي أن تتحوّل حرّية التعبير إلى «منحة» تُعطى وتُسحب، أو إلى امتياز يخضع لمزاج الرأي العام، أو لسلطة رجال الدين والسياسة والعصبيّات الطائفية. إنّ الكلمة الحرّة فِعلٌ مقاوم، ليست هي كلّ الفعل، ولكنّها فِعل يُساند أفعالًا أخرى. إنّ الثقافة فِعل مقاوم وإن لم تكن الفعل كلّه. لئن فرض الصمت أو الرأي الواحد في مجتمع فلا بدّ أن يأتي يوم يكون فيه الصمت والرأي الواحد تغطية لظلم أو جريمة. مناسبات هذا الكلام عديدة، ومنها التهديدات التي تعرّضت لها الفنّانة حنان الحاج مؤخّرًا. مَن يجد قبحًا واستفزازًا في عمل فنّي أو كتاب أو ما شابه يمكنه أن يجانبه، الذوق الأدبيّ والفنّي لشخص أو مجموعة لا يُلزم المجتمع كاملًا. المجتمع متنوّع. والدول تُصنع بالقوانين.

في زمن تتكاثر فيه الأصوات التي تطالب بإسكات الكلمة، ويُستدعى الفنّ إلى المحاكمة بدلًا من الاحتفاء، نُعيد التأكيد على حقيقة بسيطة وعميقة: لا مجتمع حرّ بشكل كامل، ومقاوم بشكل متجدّد وعادل، من دون حرّية. الحرّية ليست مجرّد قيمة أخلاقية أو مادة في الدستور، بل شرط وجودٍ لكلّ فكر، وكلّ فنّ، وكل مشروع تحرّريّ.

إنّ حرّية التعبير ليست ترفًا نُمارسه حين تسنح الظروف، بل حقٌ غير قابل للتجزئة، لا يُصادَر بحجّة حماية الأخلاق، ولا يُفرَض عليه الحجر بحجّة الدفاع عن الدين أو الخصوصيّة. وحده القانون المدني، الواضح والعادل، هو المرجع الذي يُحتكم إليه في حالات الاختلاف، لا الأفراد ولا الجماعات، مهما ادّعت تمثيلها لـ«قيم المجتمع»، ومَن يتابع تبدّل العادات والتقاليد والقيم عبر العصور ينبغي أن تدفعه عندها الحكمة ليُبقي على حرّية التعبير وإلّا لقضى بتحنيط المجتمع والدولة، ودفع الناس لإيجاد الطرق الملتوية للتحايل على القمع، أي للنفاق وهدر الإنسان.

المجتمع الذي يُخضع الفنّ للمساءلة أمام أجهزة أمنيّة أو محاكم عسكريّة، ويترك المحرّضين يطلقون التهديدات باسم الدين أو الهويّة، هو مجتمع يُفرّغ الفضاء العام من معناه، ويحوّل المساحة الثقافيّة إلى مساحة خوف لا إلى مساحة حوار. إنّ أشكال الترهيب التي تطال الفنانين والناشطين والمبدعين في كلّ شاردة وواردة ليست فقط تعبير عن منتهى الاستعلاء وإنّما تخالف أبسط حقوق الناس القانونيّة، أي تخالف معنى وجودنا معًا في كنف دولة. ثمّ ما معنى أن يتحرّر المجتمعُ يومًا من قمعِ واعتداءِ عدوّ خارجيّ، ليقع في قمعٍ واعتداءٍ داخليّ؟ نحن لا نتكلّم هنا عن قوانين تمنع التعامل مع العدوّ وإنّما عن مسرحيّة للفنّانة حنان الحاج، أو فيلم للمخرجة إليان الراهب أو رندة الشهّال، أو حفلة لفرقة «مشروع ليلى».

إنّ قانون الرقابة المسبقة الذي يفرض رقابة الأمن العام المسبقة على العمل الفنّي أمر مخالف لأبسط قواعد احترام المجتمع لذاته. من الواجب إلغاء هكذا قانون والاستعاضة عنه بالقضاء المدني كمرجعيّة وحيدة في حال وقوع أيّ نزاع. حرية التعبير ليست ملك أحد، هي حق الجميع. ومن ينتزعها اليوم من فناّن، سينتزعها غدًا من صحافي، ومن كلّ مواطن لا يملك سوى صوته.

إن لم ندافع عن الصوت المختلف، فصوتنا نفسه سنخسره غدًا. القمع هاوية جائعة لا قعر لها تسحب إليها الجميع، إن لم تصدّقوا، اتّعظوا من سوريا، ما كان فيها وما سيأتي. حرّية الرأي هي الهواء الذي يتنفّسه الوعي، وشرط التحرّر الكامل. لكن كيف تنشأ سياسة ثقافيّة واضحة، تحمي وتُحصّن حرية التعبير، وتكرّس استقلالية المؤسسات الثقافية والفنيّة عن أي ضغط سياسي أو ديني أو حزبي، في ظلّ بلد تُفَتِّت الطوائف فيه المجتمعَ وتُضعف الدولة؟ ذاك أحد تحدّيات بلادنا الكثيرة، والمتصدّون القلائل للتحدّي، لحسن الحظّ، موجودون.

* كاتب وأستاذ جامعي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب