
في الذكرى الثمانين لدحر النازية
بقلم الدكتور يوسف مكي
التاريخ يكتبه المنتصرون، وحين يكون صناع النصر أكثر من فريق، تكون لدينا أكثر من رواية، قد تتجاوز أعداد الأطراف التي شاركت في صناعة النصر. ولذلك فالمؤرخ الأمين للأحداث، بحاجة إلى تمحيص وتدقيق عميق لإجلاء الحقيقة. وحين يكون الحدث بحجم الحرب العالمية الثانية وتعقيداتها، والأطراف التي شاركت فيها، تكون معضلة التأريخ لها، أصعب وأعقد.
كلما ابتعدنا زمنيا عن الحدث، كلما باتت قراءتنا أكثر حيادية، لكن الجانب السلبي في بعد المسافة الزمنية، أن الأحداث تبدو باهتة. ولهذه الأسباب، يعمل المنتصرون، على استحضار تاريخ النصر باستمرار، وأخذها حيزا كبيرا، في التاريخ المجيد للأمة.
لقد بات من المألوف سنويا، منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، أن يحتفل الاتحاد السوفييتي، في استعراض عسكري مهيب، بذكرى النصر، وأن يكون للأبطال الذين شاركوا في صنعه حضورهم، أو من يمثلهم، في تلك الاحتفالات. كما جرت العادة، أن يلقي الأمناء العامون للحزب الشيوعي، كلماتهم الحماسية، في الجموع المحتفلة.
وحتى بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، في بداية التسعينيات من القرن الفارط، وتأسيس الاتحاد الروسي، واصلت القيادات الروسية هذا التقليد. هذا الشهر، وتحديدا في التاسع من آيار/ مايو، وقبل ثمانين عاما، من هذا التاريخ، أعلن الاتحاد السوفييتي، انتصاره على النازية، بوصول قواته إلى مدينة برلين الشرقية، وتوقيع ألمانيا لوثيقة الاستسلام.
انخرط الاتحاد السوفييتي، بقياده زعيمه التاريخي، جوزيف ستالين، بالحرب العالمية الثانية، منذ 22 حزيران/ يونيو عام 1941ـ حين غزت القوات الألمانية، أراضيه. فقد توغلت القوات الألمانية، عميقا في الأراضي الروسية، ولكن مقاومة الجيش الأحمر العنيدة، حالت دون وصول تلك القوات، لكل من مدينتي لينينجراد وموسكو.
كلف النصر، والتضحيات التي بذلت، على الجبهة الروسية عالية جدا، قدرت بسبعة وعشرين مليون قتيل، من العسكريين والمدنيين، سبعة ملايين من العسكريين وعشرين مليون من المدنيين، رجالا ونساء وأطفالا. نصيب الاتحاد السوفييتي هو الأكبر على الإطلاق، بين ضحايا تلك الحرب.
انخرطت الولايات المتحدة الأمريكية في تلك الحرب، ضد ألمانيا، في 8 كانون أول/ ديسمبر عام 1941، بعد أكثر من ستة أشهر على الغزو الألماني للاتحاد السوفييتي، وبعد أن تراجعت بالفعل قوة الرايخ الألماني، بفعل المقاومة الروسية. وتقدر خسائرها بـ 417 ألفا، من القتلى، وأكثر منهم بقليل من الجرحى. وهو رقم لا يعادل شيئا، إذا جرت مقارنته بالخسائر السوفييتية. وبخلاف القتال على الجبهة الروسية، لم يجر قتال على الأراضي الأمريكية، سوى الهجوم الياباني، على قاعدة بيرل هاربور، على الجبهة الغربية، في جزر هاواي. وكان هذا الهجوم هو السبب الرئيسي في دخول أمريكا الحرب.
تطرح الولايات المتحدة أسبابا أخرى، لدخولها الحرب، كالدفاع عن الديمقراطية، وحماية البشرية، من العنصرية النازية، لكن تاريخ الإدارات الأمريكية المتعاقبة، وبشكل خاص مساندتها، لأنظمة الاستبداد في القارات القديمة الثلاث، ودعمها لحرب الإبادة التي لا تزال إسرائيل ترتكبها يوميا بحق الفلسطينيين، تطرح ظلالا كثيفة من الشكوك، حول تلك الأسباب.
ففي النهاية، كانت الولايات المتحدة هي الكاسب الأكبر، من تلك الحرب، فقد تحولت إلى امبراطورية كبرى بعدها. وباتت أوروبا الغربية بأكملها من حصة تلك الامبراطورية. كما أتاحت لها تلك الحرب، إزاحة حلفائها، البريطانيين والفرنسيين، عن معظم مناطق نفوذهم، ليحل بعدها ما بات معروفا بالاستعمار الجديد، حيث الخروج من الأبواب، والدخول من النوافذ.
الاتحاد السوفييتي، أيضا غنم من نتائج تلك الحرب، باتساع نفوذه، ليشمل معظم أراضي أوروبا الشرقية، التي تحولت إلى كتلة الدول الاشتراكية، وليصبح قوة عسكرية كبرى، مكافئة للقوة الأمريكية. وقد توجت نتائج الحرب، على المستوى السياسي، قيام نظام دولي جديد، قائم على الثنائية القطبية، عزز من نفوذه امتلاكه لسلاح الرعب النووي.
في نهاية الحرب، وقبيل استسلام اليابان، أمر الرئيس الأمريكي، هاري ترومان، بضرب مدينتي هيروشيما ونجازاكي، بالقنابل النووية. ويذكر في هذا السياق، أن مفاوضات الاستسلام اليابانية كانت تجري قبل ذلك بين الأمريكيين وغرمائهم، وأن الهدف كان توجيه رسالة للحليف السوفييتي، حليف تلك اللحظة، وغريم المستقبل. لكن فرحة ترومان لم تدم طويلا، فقد امتلك الغريم سريعا، القوة النووية، ولم يعد السلاح النووي، منذ ذلك التاريخ، قابلا للاستخدام، وتحول إلى سلاح ردع، في أحسن الأحوال، واستعيض عنه بحروب الوكالة.
الحقبة التي اعقبت تلك الحرب، هي حقبة الاستقلال الوطني، واشتعال ثورات شعوب آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية. وخلالها سطع نجم قادة حركة التحرر الوطني، ولمعت أسماؤهم، واستقلت عدة أقطار عربية، لكنها كانت وبالا على الفلسطينيين. فما جرى من حرب على اليهود في أوروبا، والذي يقتضي المنطق أن يدفع ثمنه الأوروبيون، دفعه الفلسطينيون، حيث جرى التسريع بالهجرة اليهودية إلى فلسطين، ولجأ القادة العرب، لهيئة الأمم المتحدة، وصدر قرار التقسيم الأممي، رقم 181، في 17 تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1947، بتقسيم فلسطين مناصفة بين اليهود والسكان الأصليين، واندلعت مباشرة، حربا انتهت بنكبة فلسطين، ليتم اغتصاب فلسطين التاريخية، ولا يتبقى منها، سوى القدس الشرقية والضفة الغربية وقطاع غزة، التي تم اغتصابها في حرب حزيران يونيو عام 1967 لتستمر بعدها دائرة الصراع، هدم البيوت، وتجريف الأراضي الزراعية والتهجير بصورة أكثر عنفا وقوة. لكن ذلك لن يلغي مطلقا مقولة: ماضاع حق وراءه مطالب.