ثقافة وفنون

صوت السقوط»… ذاكرة ألمانيا متمثلة في أجيال من النساء

صوت السقوط»… ذاكرة ألمانيا متمثلة في أجيال من النساء

نسرين سيد أحمد

كاتبة مصرية

كان – في فيلمها الثاني اللافت «صوت السقوط»، الحائز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان في دورته الثامنة والسبعين، تقدم المخرجة الألمانية ماشا شيلينسكي عملاً سينمائياً آسراً وموحشاً في آن، يتتبع حيوات أربع فتيات من أجيال مختلفة، داخل مزرعة ريفية في شمال ألمانيا، حيث تمتزج ذكرياتهن وآلامهن وتجاربهن الحسية في جدران المكان نفسه، وكأن الزمن نفسه يدور في دوائر مغلقة لا تنتهي. ما يبدو للوهلة الأولى وكأنه سرد مفكك أو صور متناثرة، يتحوّل تدريجياً إلى نسيج متكامل يربط بين الطفولة والأنوثة والألم والحنين، في عمل يتجاوز الزمان والمكان، ويستقر في جوهر التجربة الإنسانية.
لا يلتزم «صوت السقوط» بزمن خطي تقليدي، بل يتنقل بسلاسة بين أربع حقب زمنية، تبدأ في أوائل القرن العشرين، وتمر بمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، ثم بجمهورية ألمانيا الديمقراطية في الثمانينيات، وصولاً إلى الزمن المعاصر. كل حقبة تمثل وجهاً مختلفاً من معاناة الأنثى في السياق الألماني، من الطفولة المشوبة بالأسى، إلى اكتشاف الذات والجنس مروراً بعلاقة الجسد بالسلطة والسياسة والأسرة.
تُقدَّم الشخصيات الرئيسية، وهي ألما، وإريكا، وأنغيليكا، ولينكا، وكأنهن أطياف متكررة لروح واحدة تعيد التجربة نفسها كل جيل، ولكن بوجه جديد. ما من رابط سردي واضح بينهن، إلا أن الفيلم يوحي بعلاقة أسرية تربط بينهن، فهن ربما حفيدات أو بنات عم، إلا أن ذلك غير مهم، بقدر ما يهمنا الشعور بأن كل واحدة تعيد تكرار ألم سابقتها دون أن تدري.
يرصد الفيلم تفاصيل البيت العتيق وسط مزرعة في الريف الألماني، كما لو كان يعيد للحياة أشباح الماضي. أحياناً تكون النظرة من وجهة نظر شخصية بعينها، وأحيانًا أخرى تأتي من كيان خفي، مثل ذاكرة تسكن البيت. يخلق الفيلم شعورا بأن الذاكرة هي التي تُشاهد، وليست الشخصيات. وهي ذاكرة حسية تتذكر ملمس الهواء، وصوت الذباب، ووقع الخطى، أكثر مما تتذكر الأحداث. ورغم غياب الحدث التقليدي والصراع المباشر، فإن الفيلم مشبع بالمشاعر. كل فتاة تعيش صراعاً داخلياً مع جسدها ورغباتها، مع حدود المجتمع والأسرة، ومع فكرة الغياب.
إريكا مثلا، تعيش في زمن الحرب، تحاكي فقدان أحد الأطراف كنوع من التجربة مع الألم الجسدي. أنجيليكا تتخيل انمحاء جسدها تحت آلة ضخمة في مزرعة والدها، فيما تتأمل لينكا في الحاضر نظرات الآخرين لها، وكأنها سهام تخترق جلدها. إنهن يتشاركن الحساسية المفرطة، وشعوراً دائماً بأن وجودهن عبء أو خلل لا يمكن شرحه. واحدة من أقوى لحظات الفيلم تأتي عندما تقول إحدى الشخصيات: «من الغريب أن شيئاً ما قد يؤلمك وهو لم يعد موجوداً» هذه العبارة تختزل ما يحاول الفيلم تصويره: الألم كذاكرة جسدية لا تزول، حتى إن اختفى مصدره.

الفيلم يشبه إلى حد كبير حلماً طويلاً، أو شريط فيديو منزلي صامت يمتد لمئة عام، حيث تتلاشى الحدود بين الماضي والحاضر، بين الشخصية ومحيطها. لا يهتم «صوت السقوط» بالصراعات الدرامية التقليدية، بل يفضل الغوص في الطبقات الخفية من الشعور: صوت الأغاني التي تتكرر، الخوف من أعماق مياه نهر ما، صمت الصيف. بهذه العناصر تصنع شيلينسكي عالماً مشحوناً بالمعاني رغم هدوئه الظاهري. كما يمكن القول إن الفيلم يعيد طرح أسئلة عميقة عن الذات: هل نرى العالم مقلوبا أم نحن من نقلبه؟ هل يمكن أن نعي لحظة سعادتنا أثناء وقوعها؟ هذه الأسئلة لا تُطرح بشكل مباشر، لكنها تتسرب من بين ثنايا المشاهد كهمس داخلي يعكس التوتر المستمر بين الوعي والنسيان.
ما يثير الحزن العميق في «صوت السقوط» هو أن هؤلاء الفتيات، رغم تقارب معاناتهن، لا يتواصلن فعلياً. إنهن منفصلات عن بعضهن في الزمان، لكن أرواحهن تتقاطع في المكان والذاكرة. وكأن الفيلم يخبرنا بأنهن لو استطعن مشاركة الألم، لربما تجاوزنه. لكن الفيلم أيضاً يقر بأن هذا هو جوهر التجربة البشرية، التفرد في الألم، والصمت في لحظة الانكسار.
«صوت السقوط» ليس فيلما سهلا، بل هو عمل يتطلب الانتباه، وربما أكثر من مشاهدة واحدة لفهم عمقه الحقيقي. لكنه فيلم يكافئ المتلقي، لا بالإجابات، بل بإحساس نادر بأن السينما قادرة على التقاط ما لا يُقال. هو عمل عن الغياب، لكن حضوره الفني صارخ، عن الألم، لكنه لا يصرخ؛ عن الذاكرة، لكنه لا يشرح. إنه دعوة إلى النظر إلى الخلف، ليس لنحزن، بل لنفهم، وربما، لنتجاوز.
في النهاية، «صوت السقوط» ليس فقط تأملا سينمائيا في أنوثة ألمانية متعددة الأجيال، بل شهادة على قوة السينما حين تتجرأ على الاقتراب من أعماقنا بصمت، وتضيء زوايا مظلمة في وعينا لا تستطيع الكلمة وحدها الوصول إليها.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب