مقالات

الوصية الحادية عشرة

الوصية الحادية عشرة

أنطوان شلحت

ثمّة استنتاجات بليغة من هذه الحقيقة، لعل أولها الاستنتاج: إذا كانت كراهية إسرائيل في ضوء جرائم الحرب تعبيراً عن معاداة السامية، فإن لا مناص عندئذٍ من استنتاج أن دولة إسرائيل تشكل، من بين وكلائها الراهنين، الوكيل الأكثر نجاحاً لبثها ونشرها

يبدو أن الحجّة الجاهزة التي تبنّتها إسرائيل منذ عدة أعوام، أن أي عملية نقد لها أو لممارساتها الراهنة أو للآثام التي ارتكبتها الصهيونية على مدار تاريخها أحد أشكال معاداة السامية، لا تنطلي على معظم الخبراء في هذا المجال، بالرغم من أن المحاولات الإسرائيلية لدمغ كل النشاطات المناهضة لحرب الإبادة في قطاع غزّة بهذه الشبهة لم تتوقف، بل آخذة في الشطط.

وهي استمرار لحملة سبق للمفكّر العربي عزمي بشارة أن أشار إليها قبل أكثر من ستة أعوام، وشفّت عن أن إسرائيل تعمل على ترسيخ تعريف جديد لمصطلح معاداة السامية بغرض شرعنة الصهيونية، وهو التعريف القائل إن مناهضة الصهيونية عداء للسامية، وعلى الرغم من أن هذا التعريف قديم فإن انتشاره وتبنّيه عالمياً يُعدّ جديداً، وربما يحيل إلى تحوّلاتٍ مشينةٍ في البيئتين الإقليمية والدولية.

وفي سياق دحض هذه الحجّة في الوقت الحالي، نلاحظ مثلاً تأكيداً على أن حافز الهجوم على إسرائيل في الوقت الحالي سياسي فقط. ومثلما أشار المؤرخ موشيه تسيمرمان، المختصّ في تاريخ المحرقة النازية، والسفير الإسرائيلي السابق في ألمانيا شمعون شتاين، قبل أكثر من نصف عام، فإن الناس في كل العالم منذ 7 أكتوبر (2023) يتفاعلون مع الأخبار والصور الواردة من قطاع غزّة، ومن الأراضي المحتلة 1967. ومع ذلك، مَن يهتم بموضوع العداء للسامية يعرف أن هذا الأساس موجود في الموقف السلبي حيال إسرائيل، وكذلك سمحت الحرب بعودة ظهور مواقف معادية للسامية، غير أن الاستخدام المبالغ فيه لمصطلحَي العداء للسامية والمحرقة يؤدي برأيهما إلى تآكل تأثيرهما.

وبعبارات مباشرة أكثر، يروم هذا الرأي المنافي للموقف الإسرائيلي الرسمي والتشهيري بالأصوات المناهضة لحرب الإبادة، أن يشدّد على أنه في حال وجود ارتفاع حاد في مظاهر معاداة السامية، فإن سبب ذلك يعود إلى جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل خلال حربها المستمرة على غزّة منذ أكثر من 19 شهراً. وهذا يعني أنها ليست معاداة السامية الكلاسيكية التي هي وفق قاموس المؤسسة الإسرائيلية الرسمية “كراهية اليهود لمجرّد كونهم يهوداً بغض النظر عن أفعالهم”، وإنما هي كراهية إسرائيل في ضوء الصور والمشاهد القاسية من وقائع الحرب على غزّة.

وثمّة استنتاجات بليغة من هذه الحقيقة، لعل أولها الاستنتاج: إذا كانت كراهية إسرائيل في ضوء جرائم الحرب تعبيراً عن معاداة السامية، فإن لا مناص عندئذٍ من استنتاج أن دولة إسرائيل تشكل، من بين وكلائها الراهنين، الوكيل الأكثر نجاحاً لبثها ونشرها، سواء بسبب ممارساتها الهوجاء، أو بسبب المماهاة الرعناء بين معاداة السامية ومناهضة الصهيونية وحملة النقد إزاء السياسة الإسرائيلية الرسمية. الاستنتاج الثاني، ويوصف بأنه ذروة العبث، فهو أن إسرائيل، التي تدّعي أنها تمثل اليهود كلهم، تجعل اليهود في العالم أكثر عرضةً للأذى والملاحقة، ولا تحميهم بمجرّد وجود دولة إسرائيل والمستوطنات. ويبدو أن المزيد من اليهود في العالم يلاحظون ذلك، ويشعرون في قرارة نفوسهم بأنهم أصبحوا رهائن الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني. وهناك ما هو أبعد من هذا كله، فدولة إسرائيل لم تنجح في منع هجوم طوفان الأقصى الذي تسبّب بمقتل أكثر من ألف إسرائيلي على أراضيها، أغلبيتهم من اليهود، وبالتالي، هل يمكنها أن تضمن إنقاذ اليهود خارج أراضيها؟ أو أن تكون بمنزلة مرساة خلاص ليهود الدياسبورا؟

الاستنتاج الثالث والأخير هو الذي خلص إليه المؤرخ تسيمرمان، عندما كتب أنه يجب أن نضيف إلى الوصايا العشر التي وردت في العهد القديم وصية حادية عشرة فحواها: “لا تطلقوا اسم العداء للسامية والمحرقة عبثاً”، علّها تؤثر في منع إسرائيل الرسمية من استخدام هذين المصطلحين بصورة مضخّمة ومسيئة، من شأنها أن تقوّض النضال الحقيقي ضد مظاهر العداء للسامية وإنكار المحرقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب