ثقافة وفنون

جوانا حاجي توما وخليل جريج: سيرة الدمار والخراب والمآسي الكبرى

جوانا حاجي توما وخليل جريج: سيرة الدمار والخراب والمآسي الكبرى

ريما النخل

قبل التجوّل بين مكوّنات العمل التجهيزيّ «ذكرى النور» الموزّع على صالات «متحف سرسق» الفسيحة في بيروت، يُفضّل أن نعود إلى أصل مشروع جوانا حاجي توما وخليل جريج الفني، بهدف فهم خطابهما التشكيليّ والسينمائيّ المستمرّ منذ عقود ثلاثة وبات له حضوره ومشاركاته في محافل عربية وعالمية.

الصورة أساس المشروع

‏الصورة هي في أساس مشروع الثنائيّ، ‏في الفن والحياة، ‏سواء ‏كانت فوتوغرافية أو بطاقة بريدية أو فيديو أو سينما. ‏وفقاً لجيل دولوز، ‏تلك الصورة المجهولة المتداولة في العالم الخارجيّ، تخترق عالم الأشخاص الداخليّ وتشكّله.

وللصورة وظيفة استدعاء الأسطورة والحنين ‏إلى الماضي الذي دمّرته ‏الحروب أو بدّدته عوامل الزمن. مثلاً، في عام 2010، صمّم الثنائي حاجي توما وجريج كتاباً من 1312 صفحة، يضمّ مجموعات مختارة من 38 ‏لوحة فوتوغرافية فضية أصلية تمّ لصقها على ‏صفحات هذا الكتاب يدوياً، وهي لعبد الله فرح، لكنّها لا تُظهر المحتوى البصري لتلك الصور بل الحاوية المعتمة التي تحفظها.

  •  من تجهيز كبسولة الزمن (2017)
    من تجهيز كبسولة الزمن (2017)

تتكشف صفحات الكتاب عن الأساطير بنصوص قصيرة تحفّز خيال المتفرّج على رؤية/ عدم رؤية ‏الصور المفقودة التي يستخدمها الفنانان ‏بغية الكشف عن إمكاناتها ‏الجمالية والنقدية والسياسية. ‏كان هذا المشروع دعوة ‏إلى التساؤل حول ذواتنا ‏في مواجهة تدفّق كليشيهات الصور المتواصل، ‏وهذا التساؤل هو ما يرميان ‏إليه عبر أعمالهما ‏الفوتوغرافية والتشكيلية (‏التجهيزية) ‏والسينمائية.

اختبار الزمن

من كمون الصورة، يتولّد المعنى. لا ‏يتساءل الفنانان ‏فقط عن وضع الصور وظروف حضورها أو اختفائها، ‏بل يضعان المتفرّج ‏أيضاً ‏تحت الاختبار عبر دعوته إلى الانتظار أو العودة. ‏تختفي الصورة وتحاول أن تصمد ‏أمام اختبار الزمن.

‏لذا هي في حاجة إلى ‏إعادة تنشيطها عبر فتح المجال القصصي، أو التخميني، ‏على عكس الصور المستهلكة ‏والمتدفقة ‏التي لا تحتفظ بكمونٍ أو بمعنى ما.

إنّ ما تخفيه الصورة هو اختبار لأفق ‏التوقع لدى المشاهد. ‏هكذا كان أيضاً ‏مشروع «بطاقات بريدية للحرب» للفنانين الذي فكك كليشيهات 18 بطاقة بريدية غير منشورة مختارة من تلك التي أنتجها ثم أحرقها عبد الله فرح بين بداية الحرب الأهلية عام 1975 ونهايتها في عام 1990.

دائرة الارتباك

ثمّ كان مشروع «دائرة الارتباك» (1997) وهو عبارة عن تركيب فوتوغرافي كبير الحجم يمثّل منظراً جوياً لبيروت ويتكوّن من ثلاثة آلاف قطعة ملصقة على مرآة. ويُدعى كل زائر للمعرض إلى تناول إحدى القطع الملصقة التي كتب عليها من الخلف «بيروت غير موجودة».

وعلى امتداد مدة المعرض، تصبح الرؤية الموحّدة والمستقرة للمدينة مجزأة. تتفكك الصورة النمطية لتفسح المجال لصورة أخرى أكثر تعقيداً وتأثيراً لواقع في تحوّل دائم.
على جانب الكمون في الصورة، أو الصورة الكامنة، ينهض مشروع حاجي توما وجريج منذ البدايات، متوسّلين مختلف الوسائط لإيصال رؤيتهما.

الماضي جزء من الحاضر

يتفاعلان مع الصور التي تتكشف في الحياة اليومية ويتفاعلان مع الواقع، ويؤوبان إلى الماضي بكونه جزءاً من الحاضر.

للصورة وظيفة استدعاء الأسطورة والحنين ‏إلى الماضي الذي دمّرته ‏الحروب

الماضي بهذا المعنى عنصر مطارد لهما، مقلق، لأنه شديد الارتباط باللحظة الراهنة التي يصعب التعايش معها إذا أُخرجت من سياقها التاريخي، أي من ماضيها.

لذا هما يهتمان كثيراً بالمادة التاريخية والأرشيفية التي تشكل قضية محورية في أعمالهما. التاريخ ذو حضور ثقيل وطاغٍ في تجهيزات وأفلام حاجي توما وجريج. معهما، لا شيء ينقضي من دون عودة ضرورية وحاجة ماسة إليه، خصوصاً الحرب اللبنانية التي ثبّتت ماضياً لا يمحى ولا تمحى صوره وإن تقادم بها الزمن أو أتلفها.

بين الخراب وإعادة البناء

الخراب بالنسبة إليهما لا يزال مأهولاً بناسه، أو على الأقل بذكرياتهم، حتى في مرحلة الهدم والبناء (هذا موضوع فيلم «البيت الزهر» للفنانين وأيضاً فيلم «أريد أن أرى» مع كاترين دونوف في جنوب لبنان المدمّر). كان الدمار قوةً دافعةً لفن حاجي توما وجريج كمصوّرين وسينمائيين. طالعتهما الأطلال في وسط بيروت الذي كان مكاناً محظوراً في نهاية الحرب داخل المناطق الأثرية.

الفنانان في حاجة إلى السياق التاريخي الموصول ليفهما تلك الصلة بين زمني الخراب وإعادة البناء، فإعادة الإعمار الاقتصادية ليست بالضرورة إعادة بناء مجتمعية.

الصوت مكمّل للصورة

‏يهتمّ الفنّانان بالصوت أيضاً. هذا وسيط آخر مكمّل للصورة، فالأصوات لديهما يمكن أن تكون أصوات جرّافات أو تفجيراً في مواقع الهدم وإعادة الإعمار، أو أصوات دبابات وقصفاً من أيام الحرب.

التسجيلات الصوتية جزء من التجهيز الفني، مساوٍ للصورة ومرافق لها. تحتاج سيرة الدمار والخراب والمآسي الكبرى (مثل مأساة انفجار المرفأ) إلى الصورة والصوت معاً، يخاطبان بهما متفرّجين ليسوا بالضرورة محلّيين، فهما لا يفكران في هوية الناظر إلى أعمالهما والمتفاعل معها.

هما قدما ما أنجزا في كل مكان ولمسا إدراكاً لما يسعيان إلى قوله في كل مكان، ولا فرق بين بيروت وكيبيك وديترويت، فالسينما في يقينهما واقتناعهما «إقليم إضافي» على حد تعبير جان لوك غودار. الصورة والسينما مكانان جديدان بحدّ ذاتهما. الصورة كتلة زمنية ــ مكانية أو «زمكانية» في الاصطلاح المركّب.

بين القدس واليونان

‏بالنسبة إلى جوانا حاجي توما وخليل جريج، بيروت مختبر، حيث يحدث دائماً ما هو غير متوقع. إنها صدى للمشكلات الموجودة في بقية العالم لأنّها ببساطة أكثر فحشاً ووضوحاً.

مع ذلك، ثمة لخليل جريج مدينة أخرى في وعيه هي القدس، فأمّه مقدسية، والدها من القدس ووالدتها من حيفا، وقدمت العائلة إلى لبنان قبل النكبة. ولا يزال ضياع فلسطين يمثّل لخليل جزءاً من ضياع الهوية، والعلاقة بالمكان يمكن أن تضيع ويُعاد تشكيلها.

كذلك جوانا، يعود أصل عائلتها إلى مدينة سمِرْلَة اليونانية القديمة على الساحل الغربي للأناضول. هي أيضاً يتراكم في وعيها ولا وعيها سؤال المكان والهوية، لكنّ الفنانين الزوجين يقتديان بالشاعر اليوناني الكبير كفافيس الذي نشأ في الإسكندرية، غير أنه كان مرتبطاً بفكرة اليونان كأمة.

الفنون تخلق قرباً مكانياً يتجاوز الانتماء المباشر أو مكان العيش. الفنانان يعيشان بين بيروت وباريس، لكنهما وهما في العاصمة الفرنسية يفكران بمشاريع فنية أو سينمائية تخصّ بيروت لا باريس.

معرض شامل

التجهيز الكبير حجماً وعناصرَ الذي يقدمه الثنائي اليوم في «متحف سرسق» تحت عنوان «ذكرى النور» (مستوحى من فيديو أنجزه الثنائيّ عام 2016 واختبرا فيه ظلّ الضوء تحت الماء) يجمع قديماً لهما إلى جديد، عبر مروحة واسعة من الوسائط، وأفلام فيديو على شاشات كثيرة، وصور فوتوغرافية وصولاً إلى الجداريات الكبرى، والتسجيلات الصوتية، والنصوص والمنحوتات والتركيبات المجسمة.

مجموعة أعمال أنجزاها بين عامَي 2016 و 2019 وتستكشف لحظات الاضطراب والهشاشة والتخيّلات المصطنعة والمدينة والذاكرة والآثار والسرديات الخفية وما دُفن أو خُبّئ عبر الزمن.

* «ذكرى النور»: حتى الرابع من أيلول (سبتمبر) ــ متحف «سرسق» (الأشرفية) ـ للاستعلام: 01/202001

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب