مقالات

موسم الحج إلى دمشق

موسم الحج إلى دمشق

جمال غصن

يتميّز المطبخ الشامي وامتداده الجبل لبناني عن محيطه المباشر بلحومه التي تؤكل نيئة. هل يمكن تسميته مطبخاً إذا كانت ملذّاته لا تُطبخ؟ كما إنه يتميّز أيضاً بحلوياته التي لسبب ما لم تعبر البادية ولم تصل لا إلى النيل ولا الفرات.

يتميّز المطبخ الشامي وامتداده الجبل لبناني عن محيطه المباشر بلحومه التي تؤكل نيئة. هل يمكن تسميته مطبخاً إذا كانت ملذّاته لا تُطبخ؟ كما إنه يتميّز أيضاً بحلوياته التي لسبب ما لم تعبر البادية ولم تصل لا إلى النيل ولا الفرات. فمن المثبت علميّاً أنه كلما ابتعدنا جغرافيّاً عن مدينة طرابلس الشام كلّما ساءت الحلوى إلى حد انعدام صلاحية استهلاكها وتسميتها بالحلوى على مسافة معيّنة في كل جهة. في موسم الحج هذا العام تتهافت القوى والجهات والجبهات على تقاسم برازق دمشق الشهيرة بعدما انهارت مركزية توزيعها التي اعتاد عليها مجايلونا ومجايلو آبائنا وأمهاتنا.

منذ جولة جابي الخوّات الأميركي دونالد ترامب على أمراء الحضن العربي والأصفار الخيالية التي تطايرت في صفقات لن يبصر النور منها إلّا «نيومها» (في علم الرياضيات النيوم أو NEOM هي نسبة الجزيئات المجهرية التي تتحقق من أحلام اليقظة الأميرية)، اتجهت الأنظار والأحلام في منطقتنا نحو سوق عربية بِكر حُرِّرت أخيراً، وأمرائها الفاتحين والمنفتحين حديثاً.

آخر حجاج المسعى بين صفا قاسيون ومروة بردى هو القائم بأعمال بيت ترامب الأبيض في دمشق وسفيره في أنقرة توماس باراك الذي اغرورقت عيناه وعينا مضيفه السوري بالدموع عندما شهدا على أعظم مشهد لرفع العلم الأميركي، منذ تلك الصورة الأيقونية على جزيرة إيو جيما اليابانية إبّان الحرب العالمية الثانية. هوليوود تحبّ تخليد تلك الصورة وتذكيرنا بها دوماً للإيحاء بأن النصر على النازية كان من فعل الأميركيين على جزيرة نائية، بعيداً كلّ البعد من صورة رفع العلم السوفييتي على الرايخشتاغ في برلين. لكن غالباً ما يكون واقع الأشياء في مكان وصورة النصر في مكان آخر متخيّلاً، أو نتاج مخيّلة أصفار وأُحدان برمجيات الذكاء الاصطناعي في يومنا هذا.

المشكلة في دمشق اليوم ليست في انفصام واقع الأشياء عن صور النصر المتخيّلة فحسب، بل أيضاً في تشخيص الأمر الواقع أولاً ومحدودية الخيال المتصوّر ثانياً وثالثاً وأخيراً. في ألبوم صور ذاكرة الحروب الأميركية على الشعوب أيضاً، صورة لجورج دبليو بوش يعلن «إتمام المهمّة» من على متن حاملة طائرات أميركية شاركت في تدمير بغداد وقتل العراقيين، وعوتب بوش الابن في حينها على تسرّعه في إعلانه. إذ تلا التقاط «صورة النصر» تلك انطلاق مقاومة ضروس ضد الاحتلال الأميركي شارك فيها عراقيون وغير عراقيين بعضهم يهوى التقاط الصور وآخرون يفضّلون العمل في الخفاء.

أقلّ ما يمكن قوله عن سوريا اليوم هو إن المهمّة، مهما كانت تلك المهمّة، ما تزال بعيدة من الإتمام وإن كثر المتسرّعون على تقاسم غنائمها، وهنا تكمن المصيبة في غياب العقل والخيال عما يتمّ رسمه كـ«صور نصر» في سوريا الجديدة. فمن جهة هناك ملّة الرأس المال المعولم المفترس التي ترى في سوريا فريسة طازجة حان وقت تقطيعها شقفاً والتهامها نيئة كلحوم مطبخها. آكلو لحوم بشر هؤلاء لا يرون في العالم إلا أصفاراً تتكاثر في حساباتهم البنكية. للمفارقة وكلاء هذه الوحوش المحليون، أو الطامحون للقيام بأعمال الوكيل، يرون في صورة فرع لـ«فرنشايز» عالمي يبيع بوظة على كوسا للـ«فيغان» الكارهين للسمن الحموي (والذات) في سوق الحميدية انتصاراً وازدهاراً حتى لو تمّت مداكشته بـ«بكداش».

ولا يرون حرية مكتملة قبل احتساء عصائر الكراميل من «ستاربكس» في باحة الأموي ومعانقة أقواس «ماكدو» الذهبية لمآذن دمشق القديمة وأجراس كنائسها. طبعاً كل ذلك قبل الدخول في الجدّ واللبرلة والخصخصة «المستقبلية» التي شهدتها بيروت المتعطشة لإعادة الإعمار مطلع تسعينيات القرن الماضي. ما كان متاحاً أمام حيتان وسط بيروت في تلك المرحلة لا شيء مقارنة بالقطاعات والموارد المعروضة للبيع مقابل ازدهارٍ «نيوميٍّ» موعود في بلاد الشام.

خواتم الأمور و«إتمام المهمة»، مهما كانت تلك المهمّة، ما تزال بعيدة، والأمر الواقع مرحليّ مهما كثرت «صور النصر». التسرّع من سمات الترامبية، والتي تتميز أيضاً بواقع سريع التغيّر وكثرة الصور. صورة «السفارة في عمارة ترامب» لم يحن وقتها في موسم الحج هذا العام، ولن يحين. أمّا من يتوهم أن بيع مقدّرات الشعوب يشتري ازدهاراً، فلا يسعنا إلا القول له: الله يطعمكم الحج والناس راجعة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب