ثقافة وفنون

«36 شارع عباس» يعاد بناؤه بالذاكرة الحيّة

«36 شارع عباس» يعاد بناؤه بالذاكرة الحيّة

العمل (كتابة وتمثيل رائدة طه وإخراج جنيد سري الدين) لم يكتفِ بسرد حكايات التهجير والنكبة، بل تجاوز ذلك ليُقدم شهادة حية على جدلية الشتات والعودة، متغلغلاً في عمق الصراع الفلسطيني عبر تفاصيل الأمكنة والذكريات

لم تكن مسرحية «36 شارع عباس – حيفا»، التي قُدمت في «مسرح المدينة» أخيراً، مجرد عرض فني عابر، بل تجربة غامرة تُعيد تشكيل الذاكرة الفلسطينية بكل أبعادها.

العمل (كتابة وتمثيل رائدة طه وإخراج جنيد سري الدين) لم يكتفِ بسرد حكايات التهجير والنكبة، بل تجاوز ذلك ليُقدم شهادة حية على جدلية الشتات والعودة، متغلغلاً في عمق الصراع الفلسطيني عبر تفاصيل الأمكنة والذكريات. الإخراج الفذ، بتجريده وعمقه، لم يكن مجرد خلفية للحكاية، بل شريكاً أصيلاً في بناء المعنى وتأصيله في وعي الجمهور.

الإخراج: هندسة الفراغ المستوحاة من أدولف آبيا

تميّز إخراج جنيد سري الدين ببساطته وعبقريته، وهي سمة تُشير إلى فهمٍ عميق للحكاية والقضية. في مربعٍ من ضوء تتجلى الذاكرة، لم يحتجِ المخرج إلى ديكورات مادية معقدة، بل اعتمد على الضوء كعنصر أساسي لرسم المكان وتجسيد الذكريات. هذا النهج ليس وليد المصادفة، بل هو استلهام واعٍ لرؤى أدولف آبيّا (1862-1928)، رائد المسرح السويسري الحديث. آبيّا، الذي ثار على العلبة الإيطالية ولوحة المنظور التي توهم بالمنظر الواقعي، كان يُؤمن بأن الديكور التقليدي «تحجيم للذاكرة وقتل لها». بدلاً من ذلك، دعا إلى «إحلال الحجم محل اللوحة»، والتوجه نحو مسرحة الأشكال المجردة النقية.

في «36 شارع عباس»، يتجلى هذا التأثر بآبيّا بوضوح. الخشبة الفارغة لم تكن فراغاً عدمياً، بل فضاءً محفزاً للخيال، حيث تتكوّر السينوغرافيا بالضوء، ويصير الخيال واقعاً ملموساً. آبيّا رأى أنّ «الجو المسرحي يتألف من عدد صغير من الخطوط الأفقية والعمودية والمائلة مع تنسيق فني في ما بينها». وهذا ما تحقق في المسرحية عبر استخدام الضوء في خلق ظلٍّ لشخصية نضال.

هذا الظل، المرسوم على الحائط، لم يكن مجرد انعكاس بصري، بل رمزاً لازدواجيتها العميقة، ووقوفها على الأطلال. آبيّا كان يعتقد أن دور الإضاءة المسرحية يقتصر على وضوح مشاهدة الممثل، وأن مهمتها هي إبراز التأثير التعبيري على وجه هذا الممثل وجسمه. هذا ما نجح سري الدين في تحقيقه ببراعة، حيث لم يكن الضوء مجرد وسيلة للإضاءة، بل أصبح عنصراً درامياً أساسياً يُبرز الحالة النفسية للشخصية ويُعمّق دلالاتها.

الجسد والمكان: حوار دائم وتفاعل إيقاعي

في ظل غياب الديكور المادي، أصبح جسد رائدة طه هو العنصر الأساسي في بناء المكان. تتحول على الخشبة، كأنها ترسم لنا المطبخ بتفاصيله، والحمام، والممرات. هذا التفاعل بين الجسد والفراغ يحاكي أسطورة الخلق الأولى، حيث «في البدء كان الكلمة والضوء ثم صار الوجود». فالكلمة والضوء هنا في فراغ الخشبة يبنيان المكان بواقعية بحت، كأن البيت الذي سُرق، وعنوانه «36 شارع عباس»، يُعادُ بناؤه بوعي الحاضر وذاكرة الماضي.

إيقاع الوقت والجسد يتباطأ تحت شلال الضوء، بخاصة في مشهد التفتيش في مطار اللد، وهو ما يعيد إلى ذاكرة رائدة صورة والدها البطل علي طه. هنا، تتداخل الشخصيات، ولكنها جميعها تجسيدات لبطل واحد: الحق في الصراع والوجود. هذا الاستخدام الإيقاعي للضوء والحركة يعكس رؤية آبيّا الذي اعتبر «حركة الممثل هي التي تعطي الفضاء المسرحي شكله».

«قفا نبكِ» و«ظل نضال»: حوار مع الأطلال والذاكرة

تحليل معلقة امرئ القيس الأولى «قفا نبكِ» يُشير إلى مخاطبته لظلّه المرخي على الأطلال، أو حصانِه، أو صباه الغابر المنهوب، مع دلالة قوية على البكاء على الأطلال وذكر الديار والحبيبة.

في «36 شارع عباس»، يأخذ «ظل نضال» هذا المفهوم بُعداً جديداً. فعندما تُجسد رائدة طه الشخصيات التي امتلكت البيت وبنَتْه قبل مصادرته من قبل اليهود، كانت تقف وظلها يحاكي أطلال حيفا وبحرها. هي تحاول استرجاع العائلة المهجرة وشملها، وربما كل عائلة تشتت عن أرضها.

الفرق الجوهري بين امرئ القيس ورائدة يكمن في أن الأول يعيش في التمني والفعل الذي لا يتحقق، بينما الثانية تناضل في الرجاء والمقاومة وحتمية العودة ولو بعد أطلالٍ من الخراب والدمار. فصحراء القيسِ رمل لا تعود الحياة فيه، أما بلاد الخصب، فلسطين، فالقيامة فيها فعل رجاء وحق وحتمية. ظلّ نضال لم يكن مجرد انعكاس بصري، بل رمزاً للذاكرة الحية التي تُصارع النسيان، وتُعيد بناء ما هُدم في الوجدان. إنه يُجسّد هذا الصراع الأعمق داخل المجتمع الفلسطيني، حيث يتجاوز الحق بالملكية المادية الشعور بالانتماء الوجداني للأرض، ملقياً الضوء على التعقيدات النفسية والاجتماعية التي يُخلفها الاحتلال.

كسر الجدار الرابع: إشراك الجمهور في القضية

من اللحظات الفارقة في المسرحية، خروج رائدة طه نحو الجمهور، كاسرة الجدار الرابع، ومخاطبة إياهم في مشهد لقاء «نضال» بفؤاد أبو غيدا في لندن. بهذا الفعل، تُحوّل الجمهور إلى «مشجعين لكرة الطابة»، وتُسقط على كل منهم شخصية أحد أصدقاء فؤاد وزملائه. هذا التفاعل المباشر لا يُعزز التماهي مع القصة فحسب، بل يُحوّل المشاهدين إلى جزء من حكاية الصراع الفلسطيني، ويُذكّرهم بأن القضية ليست مجرد أحداث على خشبة المسرح، بل هي قضية حية، تعيش في وجدان كل فرد.

خطواتٌ تمشي إلى الوراء: رمزية العودة والذاكرة

لحظة تتويج المسرحية كانت عندما جسّدت رائدة طه شخصية فؤاد أبو غيدا وهو يصعد درج بيته في حيفا بعد الاحتفال الذي نظّمته عائلة الرافع وأهالي الحي. خطواته تمشي إلى الوراء في عملية صعود الدرج، في رمزية بالغة العمق لاسترجاع الذاكرة واستعادة اللحظة الطفولية الأولى. جسدها، وهو يرجع إلى الوراء، يُشير إلى أن الصعود هو الرجوع إلى الذاكرة، وأن العودة ليست مجرد فعل مادي، بل هي استحضار للماضي، وربط للحاضر بالثابت في الوجدان.

موسيقى «موطني»: نشيد للملاعب والوطن

ختام المسرحية بنشيد «موطني»، بعد الاحتفال بفؤاد أبو غيدا، عاشق كرة القدم الذي طمح بمنتخب فلسطيني، كان مؤثراً للغاية. هذا النشيد تحوّل تحت دائرة الضوء إلى النشيد الرسمي للبلاد، وفي الوقت نفسه بدا كأنه نشيد الملاعب. إنه يُمثل مزجاً عبقرياً بين الهوية الوطنية والشغف الإنساني، ليُجسد أن القضية الفلسطينية ليست فقط قضية سياسية أو جغرافية، بل هي قضية هوية، ثقافة، وحياة.

المسرح: ذاكرة حية وصمود متجدد

«36 شارع عباس» هي أكثر من مجرد مسرحية؛ إنها مسرحية الضوء والظل والجسد والذاكرة. لا قيمة هنا لأي ديكور، فـ «الديكور هنا سيكون تحجيماً للذاكرة وقتلاً لها». الخشبة الفارغة، بكل ما تحمله من رمزية، أصبحت فضاءً خصباً تتجلى فيه الحكايات، وتُنسج فيه الذاكرة.

كما تقول رائدة طه، فإنّ «المسرح أداة قوية وناجحة» في المقاومة، بخاصة عندما يتناول القضية الفلسطينية «من خلال قصص حقيقية». هذا النهج، الذي يعتمد على السرديات الشخصية، يُضفي مصداقية وعمقًا على العمل، ويُحوّل التجربة الفردية إلى تجربة جماعية. المسرح، بتفعيله للحواس، يجعلك «تشم الرائحة وتسمع الأصوات وتتخيل الناس، وتتولد لديك حكاية حقيقية بشكل ترفيهي وممتع وذات رسالة».

في زمن تتآكل فيه الذاكرة وتُستلب الثقافة وتُنهَب، تُشكل «36 شارع عباس» فعل صمود ثقافي وبناء هوية متجددة. إنها تُبرز قوة المسرح في تجاوز حدود الزمان والمكان، وإعادة إحياء الذاكرة ليس كألم مجرد، بل كقوة دافعة نحو الصمود والمقاومة بأوجهها المختلفة.

هل يمكن للمسرح أن يبقى، في هذا الزمن المضطرب، الدرع الأخير لحفظ الوطن وهويته؟ «36 شارع عباس» تُجيب على هذا السؤال بتأكيد قاطع: نعم، فالفن، بالقصص الحقيقية والتفاؤل، يُغذي الاستمرار ويُشعل شعلة الأمل في عتمة اليأس.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب