هل فتح أهل النقب الطريق؟

هل فتح أهل النقب الطريق؟
عوض عبد الفتاح
كلّ ذلك يقول إن فلسطينيي النقب وسائر الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، قادرون على اجتراح حراكات كبيرة، إذا توفّرت الإرادة، والاستعداد للتعلّم من التجارب الشعبية، تجربة الناس في الصمود وتنظيم أنفسهم، والقدرة على التغلّب على شبح التخويف والترهيب…
بدا الحشد الضخم الذي نظّمه فلسطينيو النقب في مدينة بئر السبع، الخميس، حراكًا استثنائيًّا، ومفاجئًا، في مشهدٍ خيّم عليه السكون والعجز وغياب الفعل، لسنوات طويلة، وغياب المواجهة ضد مخططات الهدم والتطهير العرقي، التي تسارع تنفيذها بوتيرة وحشية ضد الوجود الفلسطيني في هذا الجزء العزيز من الوطن. ولكن نجاح تنظيم هذا الفعل الشعبي اللافت، الذي قد يُشكّل محرّكًا لحراكٍ شعبيّ مستمر قادم، لم يأتِ مفاجأة، كما يبدو لغير المتابعين لمحنة هذا الجزء من شعب فلسطين، بل جاء نتاج عوامل موضوعية، تتمثّل في توفّر مستجدَّيْن، هما تفاقم الخطر الوجودي من جهة، وتحقُّق نضوج تنظيمي لا يزال في بداياته، ولكنه واعدٌ. ما معناه أن الحشدَ ليس فزعةً أو هبّة غضب فوريّة، التي غالبًا ما تكون عابرة، إذا لم يكن وراءها، أو لم يتشكّل مع حدوثها، قيادةٌ سياسية وميدانية، بل هو عملٌ واعٍ، يبدو أنه مسقوفٌ بنظرة استراتيجية، ركيزتها الأساسية التخطيط والتراكمية.
في ظلّ الحالة الفلسطينية العامة، غير المسبوقة في خطورتها، وفي ظل وحشية مرتكبي حرب الإبادة، وغياب أيّ قوّة فعلية، إقليمية أو دولية، على منع حدوثها، ووقفها، حتى الآن، تراجعت أهمية القضايا الجزئية، المتصلة بالتجمّعات الفلسطينية المختلفة، ومنها قضايا الوجود الفلسطيني داخل الخط الأخضر. منذ انفلات وحش الإبادة، انشدّت العقول والمشاعر إلى مقتلة العصر، في غزة، وبصورة أقل إلى جرائم المستعمر ومستوطنيه في الضفة الغربية، فضعفت الهمم، وارتدعت القلوب، وتسيّد المشهد حسابات الربح والخسارة المُبالَغ فيها، ليس فقط فيما يتصل بالإرادة أو بالقدرة على إطلاق حراكات فاعلة لوقف الحرب، بل أيضًا فيما يتصل بالقدرة على إطلاق حراكٍ في مواجهة مخططات تصعيد القمع والإسكات والملاحقات، بالتوازي مع تصعيد جرائم الهدم، والمصادرة، وحجب الميزانيات عن السلطات المحلية العربية، والأخطر تصعيد الإجرام المنظّم بوتيرة مُزعزعة، في النقب والمثلث والجليل والساحل.
ما الذي يمكن أن يتعلّمه فلسطينيو الـ48 من هذا الحراك الكبير المتجدّد في النقب؟
صحيح أن ظروف فلسطينيي النقب، بصورة عامة، قاسية. ولكن ذلك الجزء منهم، الذي يسكن خارج المجمعات السكنية الحديثة شكليًّا، التي أقامتها إسرائيل منذ عام 1969، في إطار مخطّط حشرهم في أضيق بقعة ممكنة بهدف استكمال السيطرة على أراضيهم، يواجه يوميًّا هدمًا وتنكيلاً لبيوتهم ومقوّمات حياة أفراده، ليس له مثيل في أيّ دولة تعرّف ذاتها دولة ديمقراطية، وفق النموذج الغربي. ولهذا يُغذّي هذا التصعيد الجنوني من قبل دولة ضد مواطنيها، فقط لأنهم ليسوا يهودًا، مشاعرَ الغضب ودافعيّة المقاومة، التي تتخذ الشكل القانوني والشعبي، والصمود على الأرض، وتعليم الأبناء والبنات، منذ النكبة.
كلّ ذلك يقول إن فلسطينيي النقب وسائر الفلسطينيين داخل الخط الأخضر، قادرون على اجتراح حراكات كبيرة، إذا توفّرت الإرادة، والاستعداد للتعلّم من التجارب الشعبية، تجربة الناس في الصمود وتنظيم أنفسهم، والقدرة على التغلّب على شبح التخويف والترهيب. واستحضارًا لتجارب سابقة، ليست بعيدة زمنيًّا، كانت معركة مواجهة مخطط برافر الاقتلاعي لأهل النقب، المعركة الشعبية التي استمرت لثلاث سنوات، منذ 2011 حتى نهاية 2013، وانتهت بسقوط القانون – قانون التهجير – فقد أُطلقت في حينه حراكات شعبية عارمة في الجليل والمثلث، وتحولت إلى معركة وطنية عامة دفاعًا ليس فقط عن النقب، بل عن الوجود الفلسطيني داخل منطقة 1948 ككل. بل أُطلقت حراكات ولو رمزية في مناطق أخرى في الضفة وغزة وفي الشتات، مؤكدة على وحدة الشعب الفلسطيني وقضيته الوطنية.
وفي حينه، ومن خلال لجنة التوجيه لعرب النقب، ولجنة المتابعة العليا، والحراكات الشبابية الناهضة، والتي شكّلت رأس حربة ضد ذلك المخطط الاقتلاعي المتجدّد، وُضعت خطة استراتيجية لنقل قضية فلسطينيي النقب إلى وعي سائر الفلسطينيين في الجليل والمثلث، والتي بالفعل أنضجت وعيًا عامًا، قاد إلى فعل شعبي متواصل، في ميادين وشوارع أم الفحم، وعرعرة، والناصرة، وسخنين، وحيفا، ويافا، وغيرهم، جرى خلالها إغلاق شوارع رئيسية ومواجهات مع قوات الشرطة.
واليوم، نشهد تحوّلات مشجّعة في نهج التفكير والعمل، ومن علاماتها، تحوّل نظرة قيادات نقباوية سابقة كانت تنفر من نهج المواجهة الشعبية، بل كانت تصادمت مع الجيل الشاب الذي تصدّر مواجهات مخطط برافر. وحاليًّا تكتشف عدم جدوى النهج التقليدي، وبعضها بات يتقدّم الصفوف إلى جانب الأجيال السابقة.
وانطلاقًا من الوعي بأن مخطّط الإبادة ضد غزة، والتطهير العرقي في الضفة والقدس، يستهدف الوجود الفلسطيني برمّته، ليس فقط رمزيًّا بل فيزيائيًّا، من خلال انبعاث النسخة الاستئصالية الجديدة للصهيونية، فإن نهوض فلسطينيي الـ48، في الدفاع عن وجودهم وحقوقهم، هو مصلحة فلسطينية عامة، وليس فقط مصلحة لهم ولأبنائهم.
وهذا يُلقي على عاتقنا جميعًا، وخاصةً الأجيال الشابة، التفاعل مع قضية النقب، والمبادرة إلى فتح نقاش حول الأدوات القادرة على التحشيد، لأن هذا الانخراط يحمي الجميع، ويُوطّد وجودنا في وطننا، ويَبني مجتمعًا مُحصّنًا وقويًّا ومتماسكًا. ونحن بهذا نستطيع أن نستعيد مصادر قوّتنا التي فقدنا الكثير منها مؤخرًا، أمام الوهن والقصور الداخلي، وأمام الهجمات العدائية الشرسة.