مقالات

بعد أكثرمن ثلاثة أرباع القرن على اغتصاب فلسطين:الاستثمار في الديموغرافيا والهوية الوطنية الفلسطينية ضرورة لا خيار بقلم الدكتور  عبده شحيتلي -طليعة لبنان –

بقلم الدكتور  عبده شحيتلي -طليعة لبنان -

بعد أكثرمن ثلاثة أرباع القرن على اغتصاب فلسطين:الاستثمار في الديموغرافيا والهوية الوطنية الفلسطينية ضرورة لا خيار
بقلم الدكتور  عبده شحيتلي -طليعة لبنان –
مقدمة:
يبين التاريخ الحديث لدولة فلسطين أن القضية الفلسطينية بدأت بالصراع في مواجهة المستعمر البريطاني ، عام 1917 مع الوعد الذي اطلقه بلفور، وزير خارجية بريطانيا، القائل بأن “حكومة صاحبة الجلالة تنظر بعين العطف الى إقامة وطن قومي في فلسطين للشعب اليهودي ، وستبذل اقصى جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في أي بلد آخر “. بعد ذلك،جاء مؤتمر سان ريمو، عام 1920 للقوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى، ليقرر منح بريطانيا حق الإنتداب على فلسطين بهدف إعدادها لتقرير المصير. منذ ذلك الحين، كان التحدي أمام الهوية الوطنية الفلسطينية مضاعفاً لأن عليه أن يواجه المستعمر من جهة، وما يعد في الدوائر الغربية لحل “المسألة اليهودية” على حساب الأرض والشعب الفلسطيني، من جهة أخرى.
وما طوفان الأقصى إلا تتويج لهذه المواجهة، يشكل، بنتائجه ، محطة حاسمة في التصدي للحصار والعدوان المتعدد الأشكال، ويعيد القضية الفلسطينية إلى دائرة الاهتمام باعتبارها مفتاح الحلول والأزمات في المنطقة لما لها من تأثير عميق جداً في صراع المحاور وتشعباتها، إقليميا، ودولياً. فما هي الأبعاد التي تحكم هذه المعركة الكبرى؟ وما هي المآلات والآفاق التي بقيت أمام النضال الفلسطيني في واقعه الراهن؟
1- الهوية الوطنية الفلسطينية في مهب الصراع
بدأ النضال الفلسطيني مبكراً، بعد تعيين البريطانيين محمد أمين الحسيني مفتياً على القدس،عندما دعا الفلسطينيين، الذين كانوا قد بدأوا بالتظاهرات،إلى مقاومة أي تنازلات يفرضها المستعمر لصالح اليهود. اتخذ هذا النضال أشكالاً مختلفة ديبلوماسية، وجماهيرية، ومقاومة شعبية في القدس والخليل أسفرت عن مقتل حوالي 200 يهودي، وأكثر قليلاً من 100 فلسطيني تقريبا عام 1929، على إثرها أوصت لجنة ملكية بريطانية، ووثيقة حكومية بريطانية، بتحديد هجرة اليهود إلى فلسطين. ومن العام 1930 إلى العام 1935 قاد الشيخ عز الدين القسام حملة مسلحة ضد الوجود اليهودي والانتداب البريطاني، ثم انتشرت من العام 1936 الى العام 1939 ثورة فلسطينية، بدأت بإضراب عام في يافا، فواجهتها سلطة الانتداب البريطاني بالأحكام العرفية، وحل الهيئة الفلسطينية العليا التي يرأسها المفتي الحسيني، وكانت الحصيلة سقوط أكثر من عشرين الف فلسطيني بين شهيد وجريح بسلاح السلطة البريطانية، ولجوء المفتي الحسيني إلى سوريا التي كانت تخضع للانتداب الفرنسي. آل الصراع بين الشعب الفلسطيني الثائر والعصابات الصهيونية المدعومة من سلطة الانتداب إلى إصدار الأمم المتحدة توصية بتقسيم فلسطين إلى دولتين عربية ويهودية، وإخضاع القرى والمناطق المحيطة بها لسيطرة دولية عام 1947، عقب إنهاء بريطانيا انتدابها على فلسطين، لتعلن “إسرائيل” استقلالها بعد إخفاق الجيوش العربية في دحر العصابات الصهيونية، إثر الانسحاب البريطاني الذي كان قد هيأ للمحتلين كل أسباب القوة في مواجهة العرب. وكانت النكبة المتمثلة بنزوح ما يقارب 750 ألف فلسطيني من قراهم ومدنهم وتحولهم إلى لاجئين، وسيطرة الأردن على الضفة الغربية والقدس الشرقية، ومصر على قطاع غزة.
في العام 1959أسس ياسر عرفات حركة فتح في مصر،وفي العام 1964 تشكلت منظمة التحرير الفلسطينية، وجيش التحرير الفلسطيني بقيادة أحمد الشقيري، ليبدأ مسار الكفاح الشعبي المسلح الذي أسهم إلى حدٍّ كبير في حفظ الهوية الوطنية الفلسطينية، والتعامل مع القضية الفسطينية باعتبارها قضية حق تاريخي للشعب في أرضه ووطنه المستقل،وليست قضية إنسانية لمجموعة كبيرة من اللاجئين.
عند تأسيس الكيان الصهيوني كانت المسألة الوطنية الفلسطينية التي تعني وحدة الشعب والأرض حاضرة على كل المستويات الاجتماعية والسياسية والدبلوماسية، وكان التنوع الاجتماعي ،على المستويات الدينية والاجتماعية والاقتصادية، مشابهاً لكل بلاد الشام؛ لذلك كانت الهوية الفلسطينية شديدة الوضوح في عمقها التاريخي، وعلاقتها بالأرض، وفي واقع الشعب الذي يعيش في مدنه وقراه حياة طبيعية لا تختلف كثيراً عن الواقع السياسي والاجتماعي للولايات التي كانت خاضعة للسلطنة العثمانية، ثم باتت تحت سلطة الانتداب بعد الحرب العالمية الأولى. هذه الهوية الفلسطينية هي ما حفظ القضية الفلسطينية، وجعلها عصية على التلاشي في الصراع مع الحركة الصهيونية ودول الغرب الإمبريالي الداعم لها بدون حدود. في هذا الإطار كان دور منظمة التحرير الفسطينية، من خلال مؤسساتها، وعلاقاتها العربية والدولية ، ونضالها، حاسماً في حفظ الهوية الوطنية الفلسطينية، إن في الداخل الخاضع لسلطة الإحتلال أو في مخيمات اللجوء، ودول الانتشار في مختلف أرجاء العالم.
2 الحركة الصهيونية واختراع الهوية اليهودية
سعت الحركة الصهيونية لاختراع هوية وطنية، فوضعت منطلقات نظرية، وأيديولوجيا تاريخية، لتأسيس دولة قومية على غرار الدول القومية التي قامت في أوروبا بعد الثورة الفرنسية. الفكرة التي بنت عليها الحركة الصهيونية هي أن اليهود قومية، وفلسطين هي أرض الأقليم للأمة اليهودية. وحددت الصهيونية ذاتها بأنها حركة قومية تعمل على إنشاء دولة لليهود، ووضعت هدفاً أساسياً لها منذ البداية ما كان قد قرره هرتزل في كتابه الدولة اليهودية عام 1896، وهو إقناع يهود العالم أنهم يشكلون أمة واحدة، وأن وطنهم هو فلسطين التي ينبغي أن يعودوا اليها. عقد من أجل هذه الغاية المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 وتم تسمية هذه الحركة اليهودية بالصهيونية، نسبة الى جبل صهيون الذي يقع جنوب غرب القدس.
اعتمدت الصهيونية مع المؤسسين الأوائل (هرتزل، موسى هس، وبنسكر)أيديولوجيا ارتكزت، من جهة، إلى خطاب ديني يسعى لإقناع اليهود بأن الدولة اليهودية هي أرض المعاد التي تؤدي الى الخلاص، ومن جهة ثانية إلى ما سمي بمعاداة السامية، وهي حركة معادية لليهود في أوروبا في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، ليروجوا للقول: إن اليهودي، لأنه يتمتع بمميزات العرق السامي، لا يمكن له التعايش مع العرق الآري المسيحي.
عملت الصهيونية على التسويق لمعالجة مسألة “معاداة السامية” من خلال ما اعتبرته الحل الوحيد وهو تمييز اليهود عن باقي الشعوب، وليس النضال لتحقيق المساواة بين اليهود وغير اليهود في البلدان التي ولدوا وعاشوا فيها. بنى هرتزل على هذا الأساس لكي يقول بضرورة تأسيس “دولة يهودية” تجمع شمل “الأمة اليهودية” التي تشتت في المنافي على مدى ألفيّ عام.
للتخلص من معاداة السامية ينبغي أن تكون الدولة لليهود حصراً أي لأي يهودي أينما كان في العالم،ومهما كانت الجنسية التي يحملها، فهو يتمتع بكل حقوق المواطنية والامتيازات الدينية التي تتأسس عليها الهوية الوطنية، لمجرد إعلان رغبته بالاستقرار في أرض المعاد. يقول مؤسس “حركة السلام الإسرائيلية” يوري أفنيري: الدولة اليهودية في إسرائيل هي لكل يهود العالم الذين يشكلون أمة واحدة، لذلك ينبغي أن يكون تجمع اليهود المنفيين الهدف الأساسي الذي يتقدم كل الأهداف الأخرى لأنه يتعلق بوجود إسرائيل.
ركزت الحركة الصهيونية في البداية على ضرورة وجود وطن لليهود دون تحديد مكان له، يؤكد ذلك مفاوضة هرتزل للبريطانيين على إقامة دولة يهودية في سيناء أو العريش أو أوغندا أو قبرص، وهو لم يكن في ذلك الحين مهتماً بما يسمى “الأرض المقدسة” إلى أن أدرك أهمية وضع أسطورة لتتأسس عليها ما يسمى بالعودة إلى فلسطين، وذلك يقتضي اصطناع تاريخ يقول إنها الوطن التاريخي لليهود.
اتجهت الصهيونية نحو خطاب يتماشى مع الحركات القومية في أوروبا، يدعو إلى إنشاء دولة قومية لليهود، وكان على المؤرخين اختراع التاريخ الذي يخدم هذه الدعوة القومية. في هذا الإطار وضع المؤرخ اليهودي “هينرخ غريتش” تاريخاً كاملاً للشعب اليهودي في كتابه “تاريخ اليهود”، واستند إليه الصهاينة الأوائل في تشكيل تاريخ للشعب اليهودي، ثم استكمل المؤرخ “بن صهيون دينور” ما بدأه “غريتش” في البناء التاريخي لدولة إسرائيل، حيث بات الكتاب المقدس عقيدة تاريخية قومية صرفة تتأسس عليها الأيديولوجيا والسياسة التي تسوق لمشروعية الكيان الغاصب في فلسطين. في هذه الأيديولوجيا الدينية والتاريخية كانت الفكرة المركزية التي يتم التسويق لها أن “أرض اسرائيل” هي الثابت الأكيد في حياة “الأمة اليهودية” التي كانت تصبو، على مدى وجودها، إلى “العودة من منفاها” إلى الوطن الذي جعله الله أرضاً لها، بعدما ميزها عن باقي الشعوب.
أراد “بن غوريون”،بدهائه السياسي، استخدام الكتاب المقدس لتحويل المهاجرين الجدد إلى شعب موحد وربط الأجيال الشابة بالأرض. لتحقيق هذا الهدف كان يجمع المؤرخين في منزله مرة كل أسبوعين. أطلق على هؤلاء تسمية “الدائرة التناخية” وكان من بينهم المؤرخ دينور، والمشروع التاريخي الذي عملوا من أجل تحقيقه هو إقامة دولة “لإحياء مملكة داود”، واستخراج هوية للشعب اليهودي من أسفار التوراة ليعود هذا الشعب إلى “أرض إسرائيل”. الوظيفة التي أراد مؤسسو الكيان أن يلعبها “التناخ” هي خلق هوية قومية، وقناعة بحق السيادة على أرض فلسطين، باعتبارها الأرض التي انبثق منها “التناخ”. هذا التمسك الصارم بمرجعية التوراة دفع “بن غوريون” لأن يكون حاسماً في التأكيد على تمسكه بالتناخ باعتباره مرجعاً وحيداً للحقيقة التاريخية حتى لو تأكد وجود تناقض بين ما ورد في أسفاره والمكتشفات الأثرية، أو أي مصدر خارجي آخر، مهما كانت درجة علميته وموضوعيته.
هكذا إذن؛ اعتمدت الحركة الصهيونية في سعيها لخلق “هوية وطنية إسرائيلية”، وتأسيس وطن قومي لليهود على أساس أيديولوجي هو الأرض الموعودة بالاستناد الى أسفار التوراة. هذا الرابط الديني المتمثل “بالوعد المقدس” يشكل الرابط الوحيد الذي يجمع الفئات المختلفة للشعب المفترض أن يبني دولة، والذي لا تربطه أية صلة أخرى، لأنه يجمع شتاتاً من فئات متباينة، في مجتمعات مختلفة ومتباعدة ثقافياً، وحضارياً، وجغرافياً؛ بذلك صار الدين اليهودي، وحق العودة، المرتكزين الأساسين للهوية الوطنية “الإسرائيلية” التي ينبغي أن تقوم على “أرض المعاد”، ولتتجسد ” القومية الإسرائيلية” في وطن حديث كما يؤكد المؤرخ اليهودي “زوكرمان”.
قامت الدولة اليهودية بالأساس على التبرير الديني، وساعد في قيامها استغلال ما سمي بمعاداة السامية كمحرك أساسي لتشكيل الدولة باعتبارها حلاً لوباء لا علاج له إلا بالعيش في دولة تكون حكراً على اليهود دون سواهم، تحميهم من المعاناة الناتجة عن عدم تقبل القوميات الأخرى لتفوقهم على سواهم كونهم “شعباً مميزاً ومختاراً”.
على الرغم من أن نسبة اليهود في فلسطين كانت بحدود 8% عام 1914، فقد نجحت الحركة الصهيونية،بإطلاق موجات الهجرة واستمرارها لسنوات طويلة، من بلدان عدة وعلى فترات طويلة (روسيا ،بولندا ،رومانيا ،مناطق بحر البلطيق ،وسط أوروبا والبلقان ،الشرق الأوسط وبعض البلدان الإفريقية)، ورفع هذه النسبة إلى ما يزيد قليلاً عن 11% عام 1922، لتصل في فترة الانتداب البريطاني الى 31% عشية النكبة. رغم ذلك كان عدد اليهود في فلسطين عشية النكبة أقل من 500 ألف، أي ما يشكل نسبة 3 % من عدد يهود العالم آنذاك، ومع ذلك استطاعوا تشريد ما يزيد عن سبعماية ألف فلسطيني كانوا يقيمون في أكثر من خمسماية قرية ومدينة في فلسطين التاريخية عام 1948، ليبدأ تارخ طويل من الصراعات والحروب قدم فيها الشعب الفلسطيني أكثر من مئة الف شهيد، إضافة الى الشهداء العرب، ناهيك عن احتلال أراض عربية خارج حدود فلسطين التاريخية، وخسائر هائلة على الصعيد الاقتصادي، وتاثيرات شديدة السلبية على التنمية السياسية والاجتماعية والعلمية في كل الدول العربية المعنية بالصراع العربي الصهيوني، منذ عام النكبة وصولاً إلى طوفان الأقصى.
3- طوفان الأقصى والحقائق الجديدة
جاءت عملية السابع من أوكتوبر بعد حصار طويل لقطاع غزة، واشتباكات ومواجهات كان آخرها معركة سيف القدس عام 2021 ، والحرب التي شنها العدو على غزة في آب من العام 2023 التي استمرت لثلاثة ايام ؛لكن الحرب هذه المرة، على الرغم من أنها تدخل في إطار الحرب غير المتناظرة،كانت الأطول والأكثر توحشاً من جانب العدو، إن من حيث التدمير غير المسبوق في تاريخ الحروب العربية- الصهيونية، أو من حيث كم ونوع المجازر والارتكابات التي تذكر بأكثر صفحات التاريخ الإنساني سواداً. ومع دخولها الشهر الخامس في وتيرتها التدميرية والإجرامية المتصاعدة من قبل العدو، يمكن تناول الحقائق الجديدة التي أنتجتها من عدة نواح عسكرية وشعبية واقتصادية وسياسية ….الخ، وكلها هامة دون شك؛ فبالإضافة الى الإعداد المتميز بالصبر والمثابرة والابتكار، والتنفيذ المترافق مع الحماسة والجرأة البطولية، والنجاح التام في مباغتة العدو وتكبيده خسائر فادحة وأسر عدد كبير من الجنود والمستوطنين، فإن لعملية طوفان الأقصى نتائج سياسية ستكون حاسمة بالنسبة لمآلات القضية الفلسطينية. في هذا الإطار ينبغي الاستثمار في الديموغرافيا ، والهوية الوطنية الفلسطينية لكي لا يضيع صمود الشعب الفلسطيني وتضحياته الهائلة في دهاليز المصالح الإقليمية والدولية.
فيما يلي من بحثنا سنتناول بعض الحقائق المرتبطة إلى حد كبير بمسألة الهوية الوطنية التي كشفت هذه الحرب أو أكدت اهميتها الاستراتيجية.
الحقيقة الأولى: التوحش العسكري في مواجهة الديموغرافيا:
تبين الإحصاءات أن نسبة عدد اليهود والفلسطينيين العرب على أرض فلسطين قاربت التساوي ابتداء من العام 2006. يعود ذلك الى عاملين: تراجع أعداد اليهود الذين يريدون الحصول على الجنسية الإسرائيلية إلى حد التلاشي، والتكاثرالسكاني الفلسطيني العائد إلى ارتفاع في الولادات يفوق، باضعاف مضاعفة، مثيله عند اليهود على ارض فلسطين. في مواجهة هذا الواقع الديموغرافي الذي يهدد مستقبل “دولة إسرائيل” ارتفعت أصوات اليمين المتطرف الذي وضع على رأس برامجه السياسية والانتخابية العمل على تحقيق يهودية دولة الكيان، على الصعيد السياسي، بينما كانت الدوائر العلمية المرتبطة بالتصنيع العسكري تعمل بشكل محموم لتطوير قدرات العدو العسكرية والتكنولوجية التي تضمن له التفوق الساحق في مواجهة القنبلة الديموغرافية. ظهر ذلك جليا في العدوان على غزة ولبنان بعد 7 اوكتوبر، إن في القدرة التدميرية الهائلة للأسلحة، أو في التطورالكبير بتكنولوجيا المعلومات المستندة إلى أكثر انظمة السوفتوير تطورا في العالم، والطيران المسير،والأقمار الصناعية، وما إلى ذلك.
لا شكّ بأن هذه السياسة ليست جديدة، فهي استمرار لاتجاه ثابت في حياة الكيان الغاصب يتمثل بتعويض ضعف الهوية الوطنية، والاختلال في العدد، بالتفوق العسكري الساحق. في هذا الإطار كان نجاحهم في ستينيات القرن الماضي بتطوير القدرات النووية لحماية الكيان المهدد بالزوال في مواجهة المدّ القومي العربي، والقيادات التاريخية والجيوش النظامية. واليوم، فيما نجح العدو في التسويق الإعلامي له بأنه رد على طوفان الأقصى، يبرز التفوق العسكري الساحق من الناحية التكنولوجية لصالح العدوالذي ابطلت خنادق المقاومة في غزة، وابتكاراتها العسكرية ، مفاعيله بالنسبة لقدرة المقاومة على الصمود والاستمرار في تكبيده خسائر فادحة، ولكنه أدى إلى نتائج كارثية في الحجر والبشر فوق الأرض، حيث بلغ الدمار والمجازر حدوداً تتجاوز تصورات العقل أو الخيال الإنسان ، بهدف تهجيرالعدد الأكبر من فلسطينيي غزة أثناء الحرب، وبعدها، من خلال تحويل القطاع إلى مكان غير صالح للعيش، بعد تدمير المساكن والمؤسسات الصحية والتربوية والأسواق والبنى التحتية… ترافق كل ذلك مع عدوانه اليومي على مدن وقرى الضفة الغربية، رغم اتفاقات أوسلو التي سقطت أول مرة في استمراروتوسع الاستيطان، لتسقط بالضربة القاضية بعد هذا التوحش في العدوان.
الحقيقة الثانية: مدة الحرب ومتغير العصبية اليهودية المرتبطة بالمكان:
كانت هشاشة الانتماء إلى الأرض التي استقدم إليها المستوطنون اليهود الذين يحتفظون بجنسيات الدول التي قدموا منها، مثلما يحتفظون بشيء من التعلق الوجداني، وذكريات العيش الرغيد في مجتمعات الدول التي استقدوا منها، والتي تبقي أبواب العودة مفتوحة أمامهم، من الثوابت التي ينظر اليها في الصراع العربي- الصهيوني؛ لذلك كان هناك حرص أكيد لدى قيادات الكيان أن تكون مدة حروبهم قصيرة لا تترك تداعيات كبيرة ومؤثرة تمس شعور المقيمين في الكيان بالأمن والسلام ورغد العيش. كذلك كان هناك قناعة لدى الفلسطينين والعرب أن كيان العدو لا يحتمل الحروب الطويلة.
لقد أظهر استمرار الحرب أكثر من سنة ونصف دون توقف، إلا لأيام قليلة، وديناميات الصراع، وقدرة العدو على التجنيد وإدارة الحرب، رغم الخسائر الكبيرة جداً،أن هناك حقيقة، لا يمكن تجاهلها بعد اليوم تتعلق بتشكل “هوية مرتبطة بمكان الولادة” عند الجيل الثالث من يهود الكيان، تختلف إلى حد كبير عما كان عليه الحال في الجيل الأول. هناك واقع ينبغي مواجهته بجرأة وواقعية لتبني عليها استراتيجيات الصراع بالطريقة التي تؤدي لحفظ الحق التاريخي، وتحصيل حقوق الفلسطينين والعرب في أرضهم ومياههم، وأدارة مجتمعهم في دولة كاملة السيادة.
إن جيل الأبناء الذين ولدوا،هم وأباؤهم، في فلسطين يختلف في وعيه السياسي وارتباطه بمسقط الرأس عن جدهم المستوطن،رغم التساوي بينهما في الافتقاد إلى المشروعية التاريخية بالوجود على ارض فلسطين. بالإضافة إلى ذلك اكتسب الكيان “شرعية دولية” بعد أن صارت دولته كاملة العضوية في الأمم المتحدة، وتتمتع بعلاقات دبلوماسية قوية مع العدد الأكبر من دول العالم ومن بينها، للأسف، دول عربية وازنة، وهناك، كما صار من شبه المؤكد، دول أخرى على الطريق. هذه “الشرعية” تفتقد إلى أي أساس تاريخي وتقوم على الاستيطان بالقوة الذي لا يزال يشكل سياسة مستمرة للحكومات المتعاقبة للكيان، لكنها، رغم ذلك، تترسخ يوما بعد يوم بفعل زوال التهديد الخارجي للكيان بعد نجاح السياسية الصهيو-امريكية في تحييد مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد، واحتلال العراق وحل جيشه الذي كان يشكل، في ظل النظام الوطني، التهديد الأكبر للكيان، وإضعاف الجيش السوري، ثم تدمير كل مقدراته العسكرية بعد سقوط النظام ،والسعي لتمزيق النسيج الوطني في سوريا بعد ما آلت اليه الأحداث المستمرة منذ العام 2011 التي جعلت سوريا ساحة للصراعات الإقليمية والدولية.
الحقيقة الثالثة: السلطة في خدمة الديموغرافيا والهوية الوطنية:
نجح العدو في تحويل الكيان الغاصب إلى دولة، وتأسيسعصبية يريد لها أن تشكل هوية وطنية ، بفعل عوامل عديدة، إضافة لامتلاكه وسائل القوة والدعم الغربي غير المحدود. من بين أبرز هذه العوامل النظام الديمقراطي القائم على النسبية الذي يسمح لكل الشرائح الاجتماعية بالمشاركة بالسلطة، ومن بينهم العرب في الأراضي المحتلة عام 1948، والتطور العلمي والتكنولوجي، والنتائج الاقتصادية المترتبة على كل ذلك فيما يتعلق بالصناعة وكل جوانب الحياة الاقتصادية الأخرى. رغم ذلك، يلازم قادة الكيان، الملتزمين أيديولوجيا الحركة الصهيونية، شعور بتهديد مستقبل كيانهم لأن نظامه الديمقراطي يمكن أن يتحول وبالاً على عنصريته، فيلاقي مصيراً شبيهاً بمصير النظام العنصري الذي كان قائماً في جنوب إفريقيا؛ لذلك بات شعار “يهودية الدولة” عنواناُ لسياستهم العنصرية الساعية إلى فرض أمر واقع جديد من خلال تهجير العدد الأكبر من الفلسطينين، وحرمان العدد الباقي من أية حقوق سياسية في اطار دولتهم الديمقراطية. هذا الواقع يحتم على القيادات الفلسطينية، خاصة فتح وحماس، العمل الدائب على الاستثمار في الوحدة الوطنية الفلسطينية، لحفظ الهوية الوطنية الفلسطينية المستندة إلى الحق التاريخي في فلسطين، والتي راكمت، من خلال نضالها المعمد بدم الشهداء، شرعية شعبية ودولية عنوانها منظمة التحرير الفلسطينية، على قاعدة الاتفاق على توظيف الحلول السياسية في إطار استراتيجيا نضالية توظف أمكانيات الشعب الفلسطيني، ومصادر دعمه، في مقاومة ترتقي من الفصائلية لتصبح مقاومة شعب بأكمله. والاتفاق سريعا على مباشرة عمل سياسي يستند إلى المشروعية والعلاقات العربية والدولية، ويبتكر الوسائل التي تجعل السلطة الفلسطينية في الضفة وغزة وسيلة لخدمة الشعب بدلاً من توظيف تضحيات الشعب الفلسطيني في خدمة السلطة. المدخل الى ذلك لا يمكن أن يكون إلا ديمقراطية فلسطينية تعتمد التمثيل النسبي لجميع فئات الشعب الفلسطيني، في الداخل وبلدان اللجوء، لمواجهة الأعداء، ومخاطبة العالم من خلال قيادة فلسطينية وطنية لا تشوب وطنية تمثيلها أية شائبة، بعيدا عن حشر القضية الفلسطينية في صراعات المحاور الإقليمية التي تستثمر فيها، والسعي لكل أشكال الدعم والمساندة، غير المشروطة، على أساس القاعدة التي تقول: دعم القضية الفلسطينية واجب، لا يرتب، على الشعب الفلسطيني وقيادته الشرعية، إلا الولاء التام للهوية الوطنية، والحق التاريخي في فلسطين.
لقد فرض طوفان الأقصى حقائقه على مستوى العالم، وأحدث صمود الشعب الفلسطيني وهول تضحياته تحولاً رائعاً في وعي الشباب،ودعمهم للقضية الفلسطينية في الدول التي طالما كان الرأي العام فيها مؤيدا للسياسة الصهيونية، بفعل سيطرة اللوبي اليهودي على وسائل الإعلام؛ وذلك يقتضي أن تكون القيادة الفلسطينية على مستوى هذا التحول في رسم سياسات للمقاومة والتفاوض، تراعي واقع النظام الرسمي العربي، وموقع القضية الفلسطينية في وجدان الجماهير العربية، لكي تحفظ الهوية الوطنية الفلسطينة،وتعمل على تجسيدها في دولة موحدة السلطة وجامعة، تعتمد الشكل الديمقراطي المناسب الذي يمثل كل مكونات الشعب الفلسطيني.
خلاصة:إن الصراع على أرض فلسطين، قبل أن يكون عسكريا، هو صراع يتعلق بالهوية الثقافية والحضارية بين من ينتسب إلى الأرض وتاريخها وثقافتها ليكون صاحب الحق التاريخي المنسجم مع هوية الحاضر غير القابلة للاجتثاث، والهوية المصطنعة والعنصرية التي تستند إلى فبركات تاريخية أسطورية، تعمل لتجسيدها في دولة عمادها القوة العسكرية المفرطة في التوحش والعدوانية، والمخالفة لمنطق المسار التطوري للتاريخ الإنساني. نجح اصحاب الهوية المصطنعة في بناء دولة عززت الانتماء الى أرض ليست لهم، ولا عمقَ تاريخياً أو حضارياً لها، بفضل الديمقراطية والتطور العلمي والتكنولوجي، ولكنهم عجزوا أمام صمود الشعب الفلسطيني الذي نجح، رغم الأهوال، في حفظ هويته الوطنية المتجذرة في التاريخ والأرض. وقد جاء طوفان الأقصى ليضيف إلى هاجس القنبلة الديموغرافية اقتدار المقاومة والصمود الشعبي الذي يبلغ حد الإعجاز، فانكشف ارتكاس العدو نحو هذا الشكل الماقبل حضاري لدولة تقوم على الرابطة الدينية، في اتجاه يتجاوز أكثر طروحات اليمين شوفينية في كل ارجاء العالم، لا بد من أن يؤول بعنصريته إلى مصير مشابه لكل مشاريع سلطة الأبرتهايد التي تجاوزها مسار التاريخ الإنساني، إذا توفرت قيادة فلسطينية، منتخبة ديمقراطياً ومحتضنة عربياً وإنسانياُ، تستثمر في طاقات 14 مليون فلسطيني في الداخل والشتات، وتعيد القضية الفلسطينية الى أهلها على الصعيدين الوطني والقومي .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب