حرب “البكاء على رأس الميت”

حرب “البكاء على رأس الميت”
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 والقيادة في طهران تحاول تلافي المواجهة المباشرة والمفتوحة مع إسرائيل وحلفائها، ضمن سياسة تتبعها إيران منذ سنوات طويلة، مفادها: “سلق الضفدع بالماء الفاتر لا المغلي”
ضمن مساعي تغيير وجه المنطقة التي تسعى إليها إسرائيل منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بدءًا بغزّة والضفة الغربية والحرب الجارية عليهما حتى اللحظة، مرورًا بلبنان وتقويضها لحزب الله ومتوالية استهداف عناصره حتى ما بعد اتفاق وقف إطلاق النار. وكذلك الاستهداف والتوغّل المتواصلان لسورية منذ ما قبل سقوط نظام الأسد وبعده، وتحييد العراق بالتعاون مع نظامه السياسي، ثم العمليات العسكرية المستمرة على الحوثيين في اليمن، وصولًا إلى “الأسد الصاعد” التي أطلقتها إسرائيل فجر الجمعة الماضي على إيران حربًا مفتوحة وليست مجرد عملية عسكرية؛ مع العلم أن إسرائيل لم تُعلن ضربتها التي اعتبرتها “استباقية” حربًا، ولا إيران كذلك التي أطلقت على أول رشقة تجاه إسرائيل اسم “الوعد الصادق 3”. لم تُعلن أيٌّ منهما الحرب على الأخرى، رغم بدئها بينهما فعليًّا.
استهدف الطيران الحربي الإسرائيلي قادة عسكريين وعلماء إيرانيين بارزين، ومنشآت نووية وصاروخية، فضلًا عن المطارات والموانئ والمؤسسات والمقارّ العسكرية والأمنية، ومحطات لتوليد الكهرباء وتكرير البترول، وغيرها من المنشآت والمرافق في طهران ومدن من محافظات إيرانية مختلفة.
بدورها، ردّت إيران على الهجمات الإسرائيلية بضربات عبر مسيّرات وصواريخ على مدار الليلتين الماضيتين في مناطق مختلفة، أهمها تل أبيب، التي بدت مدينة خاوية على عروشها بعد أن طاولت بعض الصواريخ الإيرانية مبانٍ سكنية ومرافق عامّة إسرائيلية، ومنها مراكز حسّاسة بحسب بعض التقارير الإسرائيلية، والتي خلّفت عددًا من الضحايا القتلى والجرحى، إضافةً إلى عشرات المفقودين في مدينة مثل بات يام.
اعتبرت الحكومة الإسرائيلية، على لسان ساستها وقادة جيشها، الحرب الدائرة “ضربة استباقية” ضمن سردية تبريرية تاريخية للحرب الهجومية، حيث تعتبر فيها إسرائيل اعتداءاتها ضربة استباقية لتبدو كما لو كانت “حربًا دفاعية”، ولطالما يُعرَّف جيشها “كجيش دفاع” بعُرف النزعة العدوانية التاريخية للمؤسسة العسكرية في إسرائيل.
أطلقت حكومة نتنياهو على مهاجمة قواتها العسكرية والاستخباراتية إيران اسم “الأسد الصاعد”، وقد اجتهد محللون وخبراء عرب وأجانب في تحليل الدلالة التي تقصدها التسمية، إلى حدٍّ رأى فيها البعض رسالة من حكومة نتنياهو إلى الشعب الإيراني لتمييزه عن النظام في بلاده، حيث يجمع الأسد في ترميزه ما بين أسد يهوذا وأسد رُستَم، البطل الأسطوري في الميثولوجيا الإيرانية، في محاولة لبعث قواسم مشتركة ما بين الشعبين اليهودي والإيراني، وبما يُغري بفصل الشعب الإيراني عن نظامه الحاكم، وردّه إلى ما قبل الثورة الإسلامية عام 1979، ما عنى بالنسبة للبعض أن الحرب تحمل في دلالة تسميتها ما هو أبعد من مجرد ضرب المفاعلات النووية الإيرانية كهدف معلن للحرب، بل إسقاط النظام في طهران ربما هو ما تهدف إليه تل أبيب.
منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، والقيادة في طهران تحاول تلافي المواجهة المباشرة والمفتوحة مع إسرائيل وحلفائها، ضمن سياسة تتبعها إيران منذ سنوات طويلة، مفادها: “سلق الضفدع بالماء الفاتر لا المغلي”، وهذا ما ظلّ يشترط بالنسبة للإيرانيين في أن تظلّ الحرب خارج عمقهم الإيراني، فيما هذا ما لم يعد يخدم إيران بعد أن وجدت نفسها في اليومين الأخيرين مضطرة للدفاع عن نفسها في طهران، لا في لبنان وسورية واليمن. لقد حاولت إيران، وما تزال تحاول، تفادي حربٍ وقعت عليها في الأخير، ما قد يجعلها الطرف الخاسر فيها ما لم تردّها.
منذ أن هاجمت قوات القسّام في حماس غلاف غزّة بقواته المُحاصِرة للقطاع ومستوطناته المحيطة به، صبيحة يوم السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وسبابة الاتهام الإسرائيلية تشير متّهمةً طهران بالوقوف خلف ذلك اليوم، وقد سعت حكومة نتنياهو من حينه إلى تقطيع أوصال ما تُسميه أذرع إيران في المنطقة، وقد تمكنت فعليًّا، ولأسباب مختلفة، من دفع إيران إلى عمقها الترابي، بعد ضرب حزب الله إلى حدّ إضعافه، ثم سقوط نظام الأسد الذي ترتب عليه إخراج القوات الإيرانية من سورية، وتحييد أذرع إيران في العراق عن واجهة أحداث المواجهة ضمن ما عُرف بجبهة الإسناد، الأمر الذي مهّد لإسرائيل الطريق في الذهاب نحو “البكاء على رأس الميت” مباشرة، أي ضرب إيران الأمّ الحاضن والراعي، من وجهة نظر إسرائيل، لمشروع مواجهتها في عمقها الترابي.
لا تملك طهران خيارات كثيرة اليوم، غير ما بات يُمليه عليها واقع يومها، والأيام المقبلة ستكون مصيرية وحاسمة، ليس لناحية وجهة الحرب وتداعياتها على المستويين الإقليمي والدولي فحسب، إنما لناحية وجه المنطقة ومستقبلها ومصير شعوب ودول فيها كذلك. لقد بدأت إسرائيل حربًا قد تفلت منها في الأيام المقبلة، أو قد تفلت الحرب من أيدي كلا طرفيها، لتشقّ مجراها إلى حيث لم يتوقّعاها.