تحريض نتنياهو وصحوة الوطنية الإيرانية

تحريض نتنياهو وصحوة الوطنية الإيرانية
لماذا أحدث خطاب التحريض الذي وجّهه بنيامين نتنياهو إلى الشعب الإيراني للتمرّد على نظام الجمهورية الإسلامية مفعولاً عكسيّاً؟ وكيف تحوّل هذا الخطاب، الذي صيغ بلغة تبدو لأول وهلة «مساندة للشعب»، إلى سبب في تفجّر المشاعر الوطنية، حتى لدى أشدّ معارضي النظام الإيراني؟
في اللحظة التي كان يُفترض فيها أن يشهد الداخل الإيراني مزيداً من الانقسام، على خلفية انقسامات داخلية سياسية وأيديولوجية وأزمات اجتماعية، جاءت الحرب العدوانية الإسرائيلية لتعيد خلط الأوراق، وتولِّد انفجاراً عاطفيّاً استثنائيّاً، دفع بتيارات واسعة من المعارضة الإيرانية إلى الاصطفاف وراء ما تعدّه «وطناً مهدّداً»، لا «نظاماً متَّهَماً». بدا المشهد السياسي الإيراني وقد انقلب رأساً على عقب في اليوم الأوّل للعدوان، واختفت التباينات الداخلية، ليحلّ مكانها ما يشبه الإجماع الدفاعي.
لم يكن هذا الانقلاب نتيجة لحسابات عقلانية باردة، بل كان – في جوهره – تعبيراً عن رد فعل عاطفي ووطني عفوي، استثارته طريقة نتنياهو المباشرة والمستفزة في مخاطبة الشعب الإيراني، وتحريضه على دولته من منبر كيان يعدّ في المخيال الإيراني – الرسمي والشعبي – عدوّاً تاريخيّاً. فكما أصابت الغارات الإسرائيلية على المنشآت النووية سطحها دون أن تمسّ عمقها، فإنّ خطاب نتنياهو أصاب سطح الشخصية الإيرانية، دون أن يلامس أعماق الوعي الشعبي الإيراني وحمولته الحضارية.
ما جرى يفتح الباب أمام مفارقة بالغة الدلالة: إذ يكشف أنّ الخطاب التحريضي، حين يصدر عن طرف خارجي عدوّ، يمكن أن يعيد إنتاج ما يسعى إلى تقويضه، أي: الشرعية الداخلية للنظام.
ولفهم المفعول العكسي لخطاب نتنياهو، لا بد من تفكيكه عبر ثلاثة مستويات متداخلة:
– المستوى السيكولوجي
– المستوى السياسي
-المستوى الرمزي والهوياتي
على المستوى السيكولوجي، يحكم السلوكَ الجماعي في مثل هذه اللحظات ما يمكن وصفه بـغريزة الدفاع الوطني، التي تسبق أي اعتبارات أيديولوجية أو حزبية. فحين يُطلّ رئيس حكومة معادية على شعب بلد آخر، محرّضاً إيّاه على التمرّد ضدّ دولته، فإنّ الشعور الأوّل الذي يتولّد ليس التضامن، بل الرفض والاشمئزاز، لأنّ الرسالة تُقرأ بكونها تدخّلاً سافراً وعدائيّاً.
الكيان الصهيوني لا يُنظر إليه في الوعي الإيراني كدولة «خارجية» محايدة، بل كجسم استعماري معادٍ، ارتبط اسمه بالنكبات الإقليمية ومشاريع التفتيت. لذلك، فحتى بعض أشد خصوم النظام الإيراني استشعروا في خطاب نتنياهو إهانة لكرامتهم كإيرانيين، لا مناصرة لقضيتهم كمعارضين. ولهذا لم يتردّدوا في إعلان رفضهم الصريح لهذا الخطاب، ورفض أن يُختَزل نضالهم في ورقة تُتداول في مكاتب تل أبيب.
كما أصابت الغارات الإسرائيلية على المنشآت النووية سطحها دون أن تمسّ عمقها، فإنّ خطاب نتنياهو أصاب سطح الشخصية الإيرانية، دون أن يلامس أعماق الوعي الشعبي الإيراني وحمولته الحضارية
أمّا على المستوى السياسي، فقد أسهم الخطاب التحريضي في تثبيت شرعية النظام بدلاً من إسقاطها. إذ إنّ أي دعوة لإسقاط النظام، عندما تصدر من طرف خارجي معادٍ، يتم تلقّيها داخليّاً كتهديد لسيادة الدولة، لا كمساندة للحرّيات. وهو ما يمنح النظام فرصة لإعادة إنتاج نفسه بوصفه الضامن الوحيد لسيادة البلاد ووحدتها، وليس فقط بوصفه طرفاً في نزاع داخلي.
وبالتالي، فإن نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، سواء استغلّ هذه اللحظة إعلاميّاً أم لم يفعل، فقد استفاد موضوعيّاً من توقيت العدوان ومن الخطاب المرافق له، لإعادة توجيه بوصلة النقاش العام نحو «الخطر الخارجي»، وترحيل التناقضات الداخلية إلى ما بعد «المرحلة المصيرية» التي تمرّ بها البلاد.
هذه الحالة تكرّرت كثيراً في تاريخ الشعوب: فالعدوّ الخارجي يوحّد، حتى بين المختلفين. وتحوّل الخطاب التحريضي إلى عامل تعبئة شعبية لمصلحة النظام، لا ضدّه، لأنه أتى من جهة لا يمكن الوثوق بنيّاتها أو فصل خطابها عن مشروعها الإمبريالي في المنطقة.
في الذهاب بعيداً، إنّ خطاب نتنياهو أدّى إلى تشويه صورة المعارضة، عبر خلق تماهٍ ضمني بين «الاحتجاج» و«الخيانة». فبمجرد أن يُعلن نتنياهو دعمه للحراك الشعبي، فإنّ هذا الدعم يتحوّل – في المخيال العام – إلى عبء ثقيل، لأن أي معارض بعد تلك اللحظة يصبح عرضة للاتهام بالارتباط بأجندة صهيونية. وهو ما يدفع كثيرين إلى التراجع، أو التبرّؤ العلني من الحراك، دفاعاً عن صورتهم الوطنية، لا بالضرورة عن النظام.
بهذا المعنى، فإنّ خطاب نتنياهو لم يُحرج النظام، بل أحرج المعارضة، وأدخلها في دائرة الشبهة الوطنية، في وقت كانت تسعى فيه إلى تكريس نفسها كحركة مطلبية مستقلة عن الاصطفافات الخارجية.
وفي الوعي الإيراني العميق، لا يمثّل الكيان الإسرائيلي مجرّد كيان سياسي، بل هو رمز لمشروع توسّعي استعماري. وهو محمول في الخطاب السياسي والثقافي الإيراني – الرسمي والشعبي – على معاني النكبة والخيانة والتقسيم. ولهذا، إنّ أي خطاب يأتي من رئيس حكومته يُستقبل كـ«إهانة رمزية»، لا كمبادرة سياسية.
وقد جاء خطاب نتنياهو في توقيت ملتهب، عقب قصف إسرائيلي على أراضٍ إيرانية، ما جعله يبدو كـ«إتمام للعدوان» ولكن هذه المرّة عبر اللسان لا عبر الصواريخ. وهنا تحديداً، انقلب الخطاب إلى أداة تعبوية لمصلحة الدولة، بدل أن يكون أداة تأليب ضدها.
في نهاية المطاف: إنّ خطاب نتنياهو لم يُنتج سوى عكس ما أراد. لقد كسر قاعدة أساسية في إدارة التحوّلات الداخلية: أنّ التحريض الخارجي – خصوصاً حين يصدر عن عدو تقليدي – لا يُسقط أنظمة، بل يُسقِط المعارضة نفسها في فخّ التشكيك والانعزال.
فالشعوب، مهما كانت ناقمة على حكوماتها، ترفض أن تكون أدوات في يد الخارج، وترتد، عند الشعور بالخطر، إلى هوية وطنية دفاعية. تلك الهوية التي تتجاوز النظام والمعارضة معاً، لتصوغ سرديّة «نحن» في وجه «الآخر» المعتدي.
وهكذا، وبسذاجة سياسية مدوّية، أسدى نتنياهو – دون أن يدري – خدمة إستراتيجية إلى نظام الجمهورية الإسلامية في إيران، ووجّه ضربة رمزيّة إلى المعارضة الوطنية، وأكّد مجدداً أنّ الكيان الصهيوني، في نظر الشعوب، لا يمكنه أن يكون حاملاً لأي خطاب تحرير، بل هو دائماً حامل لخطاب عدوان.
* كاتب من الجزيرة العربية