ثقافة وفنون

المحبة لا تنتهي لطه حسين

المحبة لا تنتهي لطه حسين

إبراهيم عبد المجيد

يمشي مع روحي كتّاب من مصر والعالم، لأنهم كانوا نوافذ رائعة لي للإطلال على الفكر الجديد في سن مبكرة من عمري. منهم طه حسين الذي قرأت وأنا في الخامسة عشرة من عمري كتبا مهمة له، وعرفت المعركة التي ثارت حول كتابه في الشعر الجاهلي. وفي ما بعد كان كتابه “مستقبل الثقافة في مصر” أحد الكتب المثيرة لي، الذي طالبت كثيرا بأن يتم تدريسه في المرحلة الثانوية للطلاب، ففيه أعظم طرق النهضة، لكن طبعا لم يحدث ذلك، والتعليم ينهار حولي.
باختصار عرفت كل ما كتب طه حسين أو كُتب عنه، رغم ذلك أغراني هذا الكتاب الصادر عن دار صفصافة في مصر بعنوان “البحث عن طه حسين.. قراءات مترددة” لعدي الزغبي، الكاتب القاص والمترجم السوري الذي يعيش في السويد، والذي له مجموعات قصصية مثل “نصف ابتسامة”، ومن ترجماته “ما الذي أؤمن به.. مقالات في الحرية والدين والعقلانية” لبرتراند راسل وغيره.
قلت فلأذهب من جديد إلى خيمة العقل في عالم فقد كثيرا من عقله. يقول الكاتب عُدي الزغبي في تقديم الكتاب، إنه لا يقدم دراسة في مجمل أعمال طه حسين، بل يتناول جوانب محددة منها مرتبطة باسئلتنا الحاضرة أكثر من غيرها. أولها العلاقة مع الغرب والقيم المشتركة الكونية، وثانيها العلم والعقل وحدودهما وصلة ذلك بالدين، وآخرها التراث وقراءته، وكما يقول الزغبي الكتاب ليس تقريظا لطه حسين، رغم إعجابه غير المحدود بشخصه وفكره، بل هناك نقد سيوجهه إليه وهذا أمر طبيعي، وإن كنت بعد قراءة الكتاب تجد مساحة التقريظ والتقدير هي الأكبر، والنقد حالات قليلة معدودة يمكن أن تتفق أو تختلف معه فيها.

في الجزء الأول من الكتاب يناقش مسألة الشرق والغرب. يلخص الأمر بجزء من قصيدة للشاعر الألماني غوتة من كتابه “الديوان الغربي الشرقي” اقتبسها طه حسين في ختام مقاله “جوتة والشرق” المنشور في كتابه “الشاطئ الآخر”. القصيدة تطرح كيف أن الشرق والغرب يدعوانك إلى تذوق الأشياء الطاهرة. ثم ندخل في البحث عن إجابات لأسئلة مثل هل نتشارك، نحن والأوروبيون في قيم التنوير؟ أم أن هذه القيم غربية خالصة لا تصلح لنا. ومثل هل رأى طه حسين قيم التنوير قيما غربية، وبأي معنى وما الذي فهمه النقاد من آرائه؟ نقاد طه حسين، الذين أجملهم الكاتب في عنوان “قلة المنصفين وكثرة المؤدلجين”، فئات أربع، ماركسيون وإسلاميون و”مابعديون” ومنصفون. كيف كان هجوم الماركسيين عليه مؤدلجا، باعتباره ممثلا للبورجوازية. سواء ما جري في الخمسينيات في مصر من عبد العظيم أنيس ومحمود أمين العالم اللذين اعتبرا الفصول الأولى من كتاب “مستقبل الثقافة في مصر” دليلا على رجعيته لأنه قال إن مصر جزء من الغرب، وإن القيم العقلانية غربية، أو ما جرى بعدهما من هجمة ثانية من ماركسين مثل حسين مروة وسعد الله ونوس وفيصل دراج وجمال باروت رغم انفتاحهم الأكثر. يأتي الإسلاميون وكتاباتهم المليئة بالتجريح الشخصي والتخوين منذ أزمة كتابه “في الشعر الجاهلي”.

من أغرب التفسيرات لعقل طه حسين تفسير محمد عمارة، أن زواج طه حسين من فرنسية لها عم قسيس أثر فيه بعمق. طبعا هذا لا يمكن أن يكون مدخلا لفهم أي مفكر في العالم. ثم يأتي المابعديون، ما بعد الحداثة وغيرها، الذين يتفقون مع الإسلاميين في أن التنوير أسطورة. يعطي أمثلة من كتاب جوزيف مسعد “اشتهاء العرب” وهو النقيض لمشروع العميد التنويري. مما قالوه مثلا إنه لم يكن هناك تخلف في العالم العربي أثناء الاحتلال العثماني، لكن لا دليل لديهم على ذلك. المهم هو التقليل من النهضة التي كان من أعلامها طه حسين والطهطاوي قبله ومحمد عبده وغيرهم ممن أرادوا النهضة انطلاقا من التخلف القائم تحت الحكم العثماني، ثم يأتي المنصفون وهم قلة، ورغم اختلافهم معه فقراءتهم تشتبك معه بجدية مثل مقال قديم لسيد قطب بعنوان “نقد كتاب مستقبل الثقافة في مصر” ومقالات لبهاء طاهر وهادي العلوي. يرى الكاتب اعتراض قطب على قسمة الدنيا إلى قسمين، شرق وغرب فأين مصر. كما اعترض قطب على رؤية العميد لأثر الفلسفة اليونانية على الإسلام والمسيحية ويقول بتعدد العقليات. اعترض سيد قطب على سخرية طه حسين من القائلين بمادية الغرب ورحانية الشرق، وأقر قطب بأن الغرب مادي والشرق روحاني، وهو ما يناقض اعتراضه الأول وقوله بتعدد العقليات. نمشي مع قضايا مثل قول العميد إن مصر غربية بإطلالتها على البحر المتوسط، وهو ما ظهر في كتابه “مستقبل الثقافة في مصر”.

رأيي لم يكن العميد وحده، بل كان مفكرو النهضة بعد ثورة 1919، ومنهم حسين فوزي مثلا في كتابه “سندباد مصري”، أميل إلى هذا التصور، وأضيف إليه أن ما قدم من الشرق، تم تمثله في الروح المصرية، لكن إظهاره بشكل الدفاع عن الدين هو إظهار شكلي، فالمشكلة ليست في الدين، ولكن في تفسيره، أو كما أبرز الكتاب نفسه في السياسة التي تقوم باستغلاله. تأتي مناقشة العقل الإنساني وكيف يراه العميد واحدا لا شرقيا ولا غربيا، ورحلة مع تأثره بفكر ديكارت وضرورة الشك في ما يصل إلينا من فكر غير واضح، فالحياة حركة تجديد مستمرة.. قراءة للعلم وحدود العقل في الفلسفة التي يقف فيها العقل عاجزا عن الماورائيات، هنا تأتي مسألة العلم والإيمان. الفلسفة والعلم قد لا يثبتان وجود الله، لكنه الإيمان، ومن ثم كان هناك فلاسفة مؤمنون رغم أفكارهم المتجاوزة لذلك، منهم ديكارت نفسه وبالطبع طه حسين. العلم لا يعتدي على الدين، لكن رجال الدين هم الذين اعتدوا على العلم، والأمثلة كثيرة في اضطهاد العلماء والمفكرين عبر التاريخ أكثر مما يشير أو يأتي به الكاتب. العقلانية المعتدلة توفق بين العلم والدين، وتخرج من ثنائية ملحد/ مؤمن، وكان طه حسين من أهل العقلانية المعتدلة.

طبعا صفحات طويلة يناقش المؤلف فيها الأمر، حديث طويل عن التراث والثورة فيه، وكيف اختار طه حسين منهج الشك الديكارتي في بحثه، وكيف لم يصمد من نقد المخالفين لطه حسين، بعد كتابه “في الشعر الجاهلي”، إلا نقد ناصر في حين يعتمد الأسد على النقد الخارجي. النقد الداخلي يتساءل هل يتفق هذا الشعر مع بقية أشعار الكاتب وعصره، بينما النقد الخارجي يعتمد على المصادر، أو الإسناد كما يحدث في الأحاديث النبوية. كيف عبرت كتب أخرى عن منهج طه حسين غير كتابه “في الشعر الجاهلي”، غرامه بأبي العلاء، عدم رضاه عن المتنبي والنقاش حول ذلك، سيرة طه حسين المبعثرة بعيدا عن كتاب “الأيام” في كتب مثل “أديب” أو مقالات متفرقة في “حديث الأربعاء”، حتى نصل إلى فيلم “دعاء الكروان” وكيف اختلفت النهاية فتم قتل البورجوازي المخطئ. خاتمة الرواية مفتوحة يفترق فيها البطل عن البطلة، رغم اشتعال الحب بينهما، لكن في الفيلم يتم قتل البطل. يرى المؤلف إن ذلك ربما كان مهادنة لسلطة عبد الناصر من المخرج هنري بركات، والحقيقة أن كل الأفلام المصرية قبل وبعد عبد الناصر ينتهي فيها المجرم بالعقاب جذبا للجمهور فقط لا الدولة ولا حكامها.
ينتهي الكتاب بالحديث عن الثورة والأدب ومعنى الثورة في الأدب وهل تخلق الثورة أدبها، ثم تأتي الصفحات الأخيرة عن وصايا العميد بضرورة الوضوح في أسلوب ولغة الكتابة، فالكتابة الفكرية المعقدة مثل العقاد، أو الرطانة الماركسية غير مفيدة للقارئ. وأضيف ماذا كان سيقول طه حسين الآن في القراءات النقدية أو الفكرية الحافلة بالغرائب من المصطلحات. في النهاية أنت مع رحلة عقلية دقيقة في كثير من تشخيصها ومحبة فائقة للعميد أسعدتني أنا المغرم به منذ الصبا وتسعد أي قارئ.

كاتب مصري

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب