تحقيقات وتقارير

«حزب الله» أمام اختبار وجودي حقيقي بين «العقلانية و«الجهادية» والتكامل الاقتصادي بين لبنان وسوريا ضرورة

الأستاذ الجامعي اللبناني والخبير في السياسات العامة د. خليل جبارة: «حزب الله» أمام اختبار وجودي حقيقي بين «العقلانية و«الجهادية» والتكامل الاقتصادي بين لبنان وسوريا ضرورة

حاورته: رلى موفّق

يرى الأستاذ الجامعي والخبير في الشأن العام والسياسات العامة د. خليل جبارة أن لبنان هو أكثر الدول التي عانت من سردية ما بعد هزيمة 1967 والتي سقطت معها فكرة الدول الوطنية وجيوشها في مواجهة إسرائيل ضمن إطار الصراع العربي – الإسرائيلي، لمصلحة الميليشيات والمجموعات المسلحة في تحرير الأرض. وتزامنت السردية الجديدة مع ظهور «الثورة الإيرانية» ومشروعها القائم على التزاوج بين فكرتَي الدولة والثورة، وعلى بناء قوة نووية. ويقول: ما هو مهم في مشهد الحرب الإسرائيلية-الإيرانية أن ركائز النظام الإيراني- في حال استمر أو لم يستمر- قد تخلخلت، وبالتالي يجب على النظام أن يعيد بناء استراتيجية متكاملة جديدة تقوم على دمج الثورة داخل الدولة ومقابلة الانفتاح على الدول بسياسات تتعلق بحسن الجوار، وأن يكون مشروعها النووي منسَّقاً مع الدول الكبرى ومع الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
يعتبر أن التساؤل اليوم يتمحور حول كيفية تصرف حزب الله تجاه الحرب، وتجاه جمهورية إسلامية تُعيد إنتاج استراتيجية جديدة لنظامها عمادها التخلي عن فكرة الأذرع. فقرار استعمال السلاح معناه أن الحزب ذهب ليس إلى مشاريع مجنونة فحسب، بل إلى وظيفته الدينية التأسيسية، أي إلى الجهاد تحت عُنوان «حماية المرشد وحماية الولي الفقيه».
جبارة، أستاذ الاقتصاد في الجامعة اللبنانية-الأمريكية والذي عمل سابقاً في المؤسسات الدولية، وأبرزها البنك الدولي، وكذلك عمل مستشاراً للحكومة اللبنانية بين عامَي 2010 و2019، يؤكد على الحاجة إلى معالجة الخلل الراهن في العلاقات اللبنانية-السورية بعد وصول السلطة الجديدة في سوريا، حيث هناك مشكلة ثقة بين البلدين تحتاج إلى مساعدة الدول الخليجية لبناء مسار لتطوير تلك العلاقات، لافتاً إلى أهمية إدراك النظام الجديد في سوريا أن أقرب عاصمة عربية إلى دمشق هي بيروت، وإدراك اللبنانيين أن دولة سورية عصرية منفتحة ولديها ازدهار اقتصادي هي مكسب كبير للبنان واستقراره وازدهاره.
ويشير جبارة إلى أن «لبنان الرسالة»، كما نعرفه، أنتج مجتمعاً مبتكراً وقوى مجتمعية ناشطة وتعددية سياسية وثقافة فكرية متنوعة، وتحوَّل في مرحلة ما بين 2005 و2019 إلى تجربة سيئة لنهش النظام السياسي والاقتصادي اللبناني لتحصيل مكاسب للزعماء داخل الطوائف. وبالتالي يعود لبنان الرسالة حين يعود الانتظام إلى عمل المؤسسات الدستورية وإلى إنتاج حياة سياسية طبيعية تؤول إلى حكم توافقي لبناني صالح ورشيد من خلال انتخابات نيابية، والتي يمكن للقانون الانتخابي الحالي، في ظل التغيّرات الحاصلة، أن يفتح النظام السياسي اللبناني على منافسة مستمرة داخل الطوائف، وستكون القوى السياسية التي تتنافس داخل تلك الطوائف بحاجة إلى بناء شبكات تعاون مع مجموعات في طوائف أخرى. وهنا نص الحوار:
○ ما هي تداعيات المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية على المنطقة وعلى لبنان؟
• حرب 1967 أحدثت تغييراً جذرياً في المشهد العربي لسبب أساسي هو أن الهزيمة حينها أسقطت معها فكرة أن دول وطنية، ومن خلالها جيوش وطنية، هي التي تقوم بمواجهة إسرائيل ضمن إطار الصراع العربي-الإسرائيلي، وسقطت معها مشروعية الجامعة العربية كمدافعة عن القضية الفلسطينية، وسقط مشروع أن الزعماء العرب، وخصوصاً الجمهوريات الثورية كمصر وغيرها هي المدافعة عن القضية الفلسطينية.
وظهرت سردية منافسة تقول إن تحرير الأرض يكون من خلال الميليشيات والمجموعات المسلحة. وهذا بدأ بعد حرب 67 واستمر إلى 8 أكتوبر عام 2023. وأكثر دولة عانت من هذه السردية الجديدة هي لبنان، مع أنه أعلن الحياد عام 67، وقتها تخلّت الحكومة اللبنانية عن سيادتها لصالح المجموعات الفلسطينية بعد اتفاق القاهرة عام 69، ولم يسترجع لبنان هذه السيادة لا بعد نهاية الحرب الأهلية ولا بعد حرب تموز 2006.
كان العنوان المطلوب دائماً من إيران ما بعد الثورة الخمينية أن تُقرِّر هل هي دولة أم فكرة أم قضية أم ثورة؟ الإيرانيون اعتبروا أن بمقدورهم المزاوجة بين هاتين الفكرتين، أي بين جيش نظامي وحرس ثوري، وأكثر منطقة تأثرت بهذا المشهد كان المشرق العربي وخصوصاً لبنان، لذا لا يمكننا فصل ما يحدث اليوم في المشهد الإقليمي وتداعياته عن لبنان.
للمرة الأولى منذ انتهاء الحرب العراقية-الإيرانية، تقوم إيران ـ كدولة وثورة ـ بمواجهة إسرائيل بالمباشر. في السابق كانت إيران تعتمد على استراتيجية موازية. تريد كدولة أن تبني علاقات اقتصادية وتجارية مع دول أخرى، وفي الوقت نفسه تطلق العنان للميليشيات التابعة لها، العراقية واليمنية ولحزب الله للتدخل في المنطقة.
مع انتهاء الحرب الحالية، بمعزل عن يومياتها، تكون قد سقطت كل هذه الاستراتيجية الإيرانية المبنية على ثلاثة عوامل: أولًا: بناء علاقات جيدة مع الدول المحيطة بها، على غرار الانضمام إلى مجموعة «البريكس»، واتفاق المصالحة مع المملكة العربية السعودية، وسعيها لتحسين علاقاتها أخيراً مع جمهورية مصر العربية؛ ثانياً: بناء قوة نووية؛ وثالثاً: خلق نظام دفاعي على أبواب طهران من خلال الميليشيات التابعة لها.
انتهت صلاحية الركائز الأساسية، وأصبحت إيران اليوم دولة مسؤولة عن كل ما تقوم الميليشيات التابعة لها من أعمال، ولا تستطيع أن تتبرَّأ منها. والمشروع النووي – إن استمر – سيكون منسقاً مع الدول الكبرى ومع الوكالة الدولية للطاقة، والنقطة الثالثة الأساسية هي أن تُقابل الانفتاح على الدول بخطوات جدية تتعلق بحسن الجوار.
ما يعنيني اليوم في هذا المشهد هو أن الركائز كافة التي يقوم عليها النظام الإيراني – في حال استمر أو لم يستمر – قد تخلخلت، ويجب على النظام إعادة بناء استراتيجية جديدة متكاملة – إذا استمر. هذا هو الأهم.
○ تقصد استراتيجية جديدة للنظام بحيث عليها أن تتخلى عن ركيزتَي الأذرع والنووي، وأن تنتقل من منطق الثورة إلى منطق الدولة؟
• عليها ببساطة أن تدمج الثورة داخل الدولة، وليس فقط أن تعود إلى حدودها، إنما عليها أن تتخلى عن أفكارها المتعلقة بتصدير الثورة. إيران تريد أن تقاتل حتّى آخر شيعي في العالم. يجب أن ترجع إلى منطق الدولة التي لديها حدود واضحة ومصالح مادية، وأن تتعامل مع الدول الأخرى على هذا الأساس.
بالعودة إلى ما ينعكس على لبنان، التساؤل اليوم هو كيف سيتصرف حزب الله تجاه الحرب؟ لكن السؤال الأهم هو كيف سيستطيع حزب الله أن يتفاعل مع جمهورية إسلامية تُعيد إنتاج استراتيجية جديدة لنظامها عمادها التخلي عن فكرة الأذرع؟ وهنا نعود إلى الفكرة الأساسية، وهي أن حزب الله هو أهم إنتاج للثورة الإيرانية وأنجح إنتاج لإيران، والدليل أن دور الحزب في المحور العربي كان أساسياً، حتّى إنه فاق دور فيلق القدس والحرس الثوري. لهذه الدرجة كان دوره أساسياً.
أول أمر نتوقعه، هو عودة حزب الله بشكل تام كفكرة وكحزب لديه حضور في الداخل اللبناني من دون الميليشيا والسلاح. في هذه الحالة سيصبح حزب الله بحاجة لأن يلعب ضمن إطار شروط النظام اللبناني المبني على التشاركية السياسية بين مجموعات طائفية.
○ هذا ما يجب أن يكون، لكن هل حزب الله ذاهب بهذا الاتجاه؟
• حسب قراءتي، ومنذ انتهاء جبهة «إسناد غزة»، يتَّبع حزب الله استراتيجية تأجيل جميع الأجوبة عن الأسئلة المصيرية، وثانياً محاولة إعادة بناء كوادره وهياكله المختلفة، والذهاب أيضاً إلى التفتيش عن مصادر تمويل تساهم بالتعويض عن الخسائر الهائلة التي تعرَّض لها. أخطأ حزب الله بالاعتقاد أن لديه القدرة على شراء الوقت وتأجيل البحث بهذه المواضيع الكبرى. وهو نظر إلى المباحثات النووية الأمريكية-الإيرانية، وهذا خطأ كبير منه، كفرصة تساعده على تأجيل البحث في الأمور المصيرية.
المؤكد أن إحدى التداعيات الأساسية للحرب أنه لم يعد لدى الحزب وكذلك السلطة السياسية اللبنانية أي من الوقت الكافي لتأجيل البحث الجدي بإدارة سحب السلاح.
○ هل الرهان على أن حزب الله لن ينخرط في المواجهة الإسرائيلية-الإيرانية هو رهان صحيح؟
• حزب الله، ومن خلال متابعتنا للحرب الإسرائيلية على لبنان، اعتبر أن هناك ثلاث وظائف لسلاحه: الوظيفة الأولى هي المقاومة، والثانية هي وظيفة حماية للمنظومة الاستراتيجية الإيرانية، وثالث وظيفة للسلاح هي حماية مكاسب الطائفة الشيعية، ودائماً ما يُعبِّرون عن تلك الوظائف الثلاث بطريقة ملتبسة.
تتجلى هذه الوظائف بأن هناك سلاحاً جنوب الليطاني وسلاحاً شمال الليطاني، وبالإمكان القول إن حزب الله قبل بسحب السلاح جنوب الليطاني الذي هو سلاح المقاومة، بينما عارض حتى اليوم أي نقاش حول سلاحه شمال الليطاني، وهو السلاح الاستراتيجي الإيراني وسلاح المحافظة على مكاسب الطائفة. الحزب اعتبر بالتكتيك والاستراتيجية ـ وبرأيي أخطأ في ذلك ـ أن سحب سلاحه جنوب الليطاني كاف لتأجيل النقاش ولتمييع آلية سحب سلاح شمال الليطاني. أتت الحرب الأخيرة لتقول للحزب أن وظيفة السلاح الاستراتيجي الإيراني قد انتهت. أما إذا أراد حزب الله ربط سلاحه بالمحافظة على مكاسب الطائفة الشيعية فهو يفتح بذلك «صندوقة باندورا» تتعلق بمكاسب الطوائف الأخرى، وهذه سردية الحرب الأهلية اللبنانية التي هي دائماً مبنية باتجاه أنه ليلة الحرب هناك طوائف حملت السلاح للمحافظة على مكاسب طوائفها، ومجموعات أخرى حملت السلاح للمطالبة بحقوقها.
الحزب يمر اليوم بلحظة مصيرية كبرى، والسؤال المهم: هل سيستعمل هذا السلاح من أجل وظيفته الاستراتيجية التي هي حماية ما تبقى من النظام الإيراني، أم يتخلى عنها من أجل الحفاظ على الوظيفة الثالثة لسلاحه، أي حماية مكاسب سياسية داخل النظام السياسي اللبناني فيحاول استغلال سلاحه لتكريسها؟ هذه لحظة مصيرية بالنسبة للحزب، ولا سيما أن جميع الدول واضحة بقرارها بعدم سماح بقاء سلاحه، وهذا يعني أنه يعرف جيداً كلفة استعماله لهذا السلاح. وقرار استعمال السلاح معناه أن الحزب ذهب ليس إلى مشاريع مجنونة، بل إلى وظيفته الدينية التأسيسية أي الجهاد تحت عنوان «حماية المرشد وحماية الولي الفقيه». فعلى مدار 20 سنة كنا نعتبر أن حزب الله عقلاني ولديه حسابات ومصالح عليه حمايتها، وليس لديه أهداف جهادية، لذا أنا أقول إنه إذا استعمل سلاحه فهذا يعني أنه عاد إلى صباه، أي إلى مرحلة التأسيس.
○ لكن مَن قال إنه تخلى عن فكره الجهادي… هو غيّر سرديته حتّى تتلاءم مع ما تحتاجه كل مرحلة؟
• إذا أخذنا الموضوع من منظار آخر، إيران اليوم تُشبه عراق العام 1991 أو عراق العام 2003. في العام 91 سمح العراق بدخول المفتشين النوويين وأصبح تحت الحصار وبدأت موجات اعتراض داخلية. وهناك مرحلة العراق 2003 أي مرحلة القضاء على النظام. إيران اليوم، بمعزل عن استبعاد أي إمكانية لهجوم بري، هل هي في مرحلة الـ91 التي هي مرحلة القضاء على المشروع النووي وعلى الصواريخ الباليستية، ومنع إيران من دعم أذرعها في المنطقة ومحاصرتها، أم نحن في مرحلة 2003 التي هي مرحلة تغيير النظام؟
الإجابة عن هذا السؤال ستظهر خلال أيام، وعلى هذا الأساس سيتخذ الحزب قراره، ولا يمكن الكلام عن أي تدخل مباشر في الحرب الحالية إلا تحت عنوان أن الحزب عاد إلى أصله وصباه، أي مرحلة التأسيس وما كان يعتبره مرحلة ولاية الفقيه والجهاد، وتراجعه عن كل السرديات التي أُنتجت بعد الثمانينيات، وهي مرحلة كونه جزءاً من عملية بناء الدولة وما إلى ذلك، وسيكون من الصعب جداً معرفة كيف سيرجع إلى العمل السياسي الطبيعي.
○ في حال ذهبت التطورات باتجاه مشهد العراق 91، أي محاصرة النظام وإنهاء البرنامج النووي، أو مرحلة 2003 يعني مرحلة الإعداد لسقوط النظام، كيف تتوقع أن يكون تصرُّف الحزب؟
• إذا كانت إيران في مرحلة شبيهة بمرحلة العراق 91، فإن عدم تدخل الحزب هو الأكثر ترجيحاً، لأن النظام الإيراني يُفكِّر بنفس طريقة حزب الله، بمعنى أن أتنازل عن النووي والصواريخ الباليستية فأضمن المحافظة على النظام، ومن ثمَّ أقوم رويداً رويداً بإعادة عملية البناء. أما إذا كنا أمام نهاية مشروع كامل اسمه «الثورة الإيرانية»، فمن الممكن أن يتصرف الحزب تحت عُنوان الجهاد.
○ إذا كان النظام يترنح فماذا سيفيد تدخله؟
• هذا ما كنت أحاول قوله، أي أن الخيار هنا لم يعد عقلانياً بل جهادياً. يمكننا أخذ مثال الأحزاب الشيوعية أيام الاتحاد السوفياتي لو أنها سألت نفسها عن دورها بعد نهاية نظام راعيها، وحزب الله يمكن أن يسأل نفسه هذا السؤال في المنحى السياسي، ولكن هذا لن يحول دون تسليمه لترسانته العسكرية. لكن السؤال الأساسي هو: هل الحزب جاهز لاتخاذ هكذا قرار؟ وبالتالي مَن هو على استعداد لاتخاذ هكذا قرار من داخل الحزب؟ وهل هناك قيادة واضحة في الحزب لاتخاذ هذا القرار أم ستقول بعض المجموعات المسلحة داخله: لن أُسلِّم سلاحي؟ هناك أمثلة عالمية كثيرة في هذا الموضوع، مثل الأحزاب التي واجهت انشقاقات وحالات تمرد، والجيش الجمهوري الإيرلندي مثال على ذلك، ولكن الأساس هو أن الدعم والتمويل سوف يتضرران بشكل كبير، وهناك سؤال عمن سيقوم بتمويل هذه المنظومة لأنها كبيرة جداً؟
○ عن أي عقلانية نتحدث إذا كان الحرس الثوري يُمسك بالمفاصل الأساسية في الحزب ولا سيما بعد الضربة التي تعرَّض لها؟
• ما أقوله إنه من الصعب التنبؤ بما سيحدث. ففي لحظة يتبيَّن فيها أن النظام الإيراني يترنح، وفي لحظة يُطلق فيها المرشد الدعوة للجهاد ماذا سيفعل الحزب؟ هل سيُعلن الجهاد؟ هل سيقوم بتلبية نداء حماية النظام مع أنه يعرف أن قدرته على التأثير بهذا الموضوع غير فعَّالة، أم ستقول له قيادة الحرس الثوري حافظ على وجودك كمجموعة متواجدة في المشرق العربي؟
برأيي الإجابة عن هذا السؤال لا يمكن توقعها، هناك عامل ديني أساسي في هذا الموضوع يختلف عن مقاربتنا لحزب الله وإيران خلال السنوات الماضية.
○ من خلال متابعتك للوضع السوري منذ 2011، كيف تصف حال العلاقات اللبنانية-السورية منذ سقوط نظام بشار الأسد ولا سيما في ظل محاولات البعض في لبنان اللعب على وتر التخويف الطائفي؟
• هناك أمر غير سوي في ما خص العلاقات اللبنانية-السورية منذ سقوط النظام ويجب معالجته من قبل الطرفين بهدوء؛ ولا بد للدول العربية، وخصوصاً الخليجية، من لعب دور للمساعدة في بناء مسار لتطوير العلاقات اللبنانية-السورية. والأخطر في الموضوع أن الطائفة السُّنية في لبنان تُصوَّر دائماً، في إطار الصراعات الداخلية اللبنانية، وكأنها بحاجة دائماً إلى فحص دم، باعتبار أن السُّنة في لبنان يتفاعلون مع الحدث السوري بما يوثر على الوضع الداخلي اللبناني. بينما في الواقع أن الطائفة السُّنية منذ 1943 مروراً بمرحلة ظهور «داعش» وصولاً إلى المرحلة الحالية تُثبت أنها الأكثر التزاماً بين الآخرين بـ«لبنان أولاً»، ولكن يحاول البعض أن يُلبسها ثوباً مختلف عن ثوبها. أنا لا خوف لديَّ من تداعيات وجود السلطة الجديدة في سوريا على لبنان، لناحية اللعب بالتوازنات الداخلية، ولا أعتقد أن الطائفة السُّنية في لبنان تتفاعل مع الواقع السوري من هذا المنطلق. يجب الابتعاد عن تصوير هذا المشهد بوصفه الخطر الأساسي، وهذا يؤثر على العلاقات اللبنانية-السورية. في الواقع، لا يزال جزء من اللبنانيين ينظرون إلى هذه العلاقات من منطلق نظرتهم السلبية إلى نظام الأسد، وجزء من النظام السوري الجديد ينظر إلى لبنان من منطلق نظرتهم السلبية جداً لناحية تدخّل «حزب الله» في الشأن السوري.
هناك مشكلة ثقة في العلاقات ما بين البلدين. ما هو مهم اليوم، أن يدرك النظام الجديد في سوريا أن أقرب عاصمة عربية إلى دمشق هي بيروت، وأن يدرك اللبنانيون أن دولة سورية عصرية منفتحة ولديها ازدهار اقتصادي هي مكسب كبير للبنان واستقراره وازدهاره.
أعتقد أن هناك ثلاثة ملفات مهمة في العلاقات اللبنانية-السورية: الملف الأول يتعلق بالنازحين السوريين، وبمعزل عن بعض الأصوات التي كانت تُعبِّر عن عنصرية تُستغل لمكاسب سياسية ولا تُعبِّر عن واقع الحال اللبناني، فعلى الحكومة اللبنانية متابعة الخطة التي وضعتها وهي جيدة جداً لعودة النازحين السوريين، ومتقدمة على كل السياسات السابقة التي كانت تُعتمد على أساس أن سياسة لبنان هي «اللاسياسة»، بيما توجد اليوم خطة تنفيذية واضحة للحكومة اللبنانية الحالية.
الملف الثاني يتعلق بترسيم الحدود البرية والبحرية، وهو أمر أساسي من أجل وقف الخلافات الحدودية وتحديد هوية مزارع شبعا. أما الملف الثالث فيتعلق بالتعاون والتكامل الاقتصادي بين البلدين. فسوريا تبحث اليوم عن نموذج اقتصادي جديد، ولبنان بعد انهيار 2019 يبحث عن نموذج اقتصادي جديد. وأخطر ما يمكن حصوله هو أن يحاول كل من لبنان وسوريا بناء نموذج اقتصادي تنافسي وليس تكاملياً. يجب البحث عن خطوات تتعلق بالتجارة، والمواصلات، والاقتصاد، والزراعة، والسياحة، والصناعة، والتجارة، تكون متكاملة بين البلدين. من هنا يجب أن يكون هناك حوار واقعي بين لبنان وسوريا.
○ كنا في السابق أمام نظامين اقتصاديين مختلفين، اليوم تتجه سوريا نحو نظام الاقتصاد الحر، هل هذا يشكل خطراً على الدور الاقتصادي للبنان؟
• تهاوت وربما انتهت ركائز النموذج الاقتصادي اللبناني بسبب الأزمة اللبنانية والخلل الوظيفي في السياسة والاقتصاد. هذا النموذج كان قائماً على قطاع الخدمات والسياحة والوساطات المالية. اليوم ليس لدينا بنوك ولا سياحة بشكل جدي، وليس لدينا مواصلات وخطوط تواصل بشكل متقدم، فهل ما زالت المفاضلة اللبنانية موجودة؟ الجواب عن السؤال سيحيلنا إلى سؤال آخر: ماذا إذا بنت سوريا ركائز اقتصادها على ذات ركائز النظام الاقتصادي اللبناني؟ هذا يعني أننا سندخل في منافسة وهي ستكون منافسة خاسرة للطرفين فيما التكامل الاقتصادي سيكون مربحاً للاثنين. لا بد أن يأخذ النموذج الاقتصادي اللبناني في الاعتبار النموذج الاقتصادي السوري الجديد.
أنا أدعو إلى إعادة إعمار المشرق وليس فقط إعادة إعمار لبنان أو سوريا. وأقصد بالمشرق أربع دول أساسية هي: لبنان، وسوريا، والأردن، والعراق. يجب أن يُقدَّم نموذج اقتصادي تشاركي وتكاملي بينهم جميعاً، وبناء علاقة متطورة مع الخليج في التجارة وفتح أسواق جديدة مع أوروبا وتركيا. مع كل التغيّرات والتطوُّر التاريخي في اقتصاديات دول الخليج العربي، لا يمكن بناء سياسة اقتصادية لبنانية فقط، بل عليها أن تكون متكاملة مع إعادة بناء سوريا والأخذ بالاعتبار ما يحتاجه الخليج وما يحتاج إليه الأردن والعراق. يجب أن تكون الموارد متشاركة لإعادة تطوير نموذج اقتصادي جديد.
○ هل ما زال نموذج لبنان الرسالة، لبنان العيش المشترك وجسر التواصل بين الشرق والغرب، قادراً على أن يلعب هذا الدور أو يتمايز بهذه الوظيفة عن الآخرين، أم كانت هناك مبالغة في إبراز هذا الدور؟
• التوافق في لبنان، على مدار السنوات الماضية، ولا سيما بعد مرحلة خروج الجيش السوري، لم يعد وسيلة هدفها الحفاظ على دور لبنان – الرسالة. أصبح هذا التوافق مرادفاً لتعطيل المؤسسات وتعزيز استغلال السلطة وتكريس الزبائنية السياسية. فقد تصالحت الأحزاب السياسية مع فكرة وجود سلاح لدى «حزب الله» مقابل أن تأخذ حصصها المادية في الداخل اللبناني. جشع القوى السياسية وصراعاتها الدائمة على تقاسم السلطة جعلت من حزب الله لاعباً أساسياً وكبيراً جداً في السياسة الداخلية اللبنانية، ومنظِّماً للعلاقات بين المجموعات السياسية اللبنانية.
لبنان الرسالة، كما نعرفه، أنتج مجتمعاً مبتكراً وقوى مجتمعية ناشطة، وأنتج تعددية سياسية وثقافة فكرية متنوعة. أما تجربة لبنان في المرحلة بين 2005 و2019 فهي تجربة سيئة لنهش النظام السياسي والاقتصادي اللبناني من أجل تحصيل مكاسب لقيادات تحت عنوان تأمين حقوق المجموعات الطائفية. ليس في لبنان مكاسب للطوائف بل مكاسب للزعماء داخل تلك الطوائف. والزعماء يستغلون الطوائف لزيادة مكتسباتهم. المشكلة الحقيقية هي في الزبائنية السياسية وليست في الكوتا الطائفية في المراكز. لبنان يعود رسالة حين يعود الانتظام إلى عمل المؤسسات الدستورية، وإلى إنتاج حياة سياسية طبيعية، واقتصاد مبني على قطاع خاص يبتكر وينافس ولا يعتمد على الاقتصاد النقدي.
○ هل يمكن للاستحقاق الانتخابي النيابي في ربيع 2026 أن يؤول إلى إنتاج طبقة سياسية جديدة؟
• اتفاق الطائف وضع برنامجين زمنيين لمرحلتين، المرحلة الأولى على المدى القصير والمتوسط، والمرحلة الثانية بعيدة المدى. الأولى التي تشمل بعض الإصلاحات تساهم بإدارة أفضل للتوافق؛ والثانية هي مرحلة إلغاء الطائفية السياسية. نحن لم نُطبِّق المرحلة الأولى كي نتحدث عن المرحلة الثانية. وبالتالي، يبدأ الانتقال من نظام طوائفي مبني على نهش النظام إلى حكم توافقي لبناني صالح ورشيد من خلال انتخابات نيابية. والقانون الانتخابي الحالي يمكن أن يؤدي هذه الوظيفة، لأن النظام اللبناني يكون منتجاً بتركبيته الطائفية عندما تكون المنافسة داخل كل طائفة وليس بين الطوائف. المشهد اليوم أن هناك تنافساً قوياً داخل الطائفة المسيحية بين 3 أحزاب ومجموعات أخرى. وهناك تنافس كبير أفقي داخل الطائفة السُّنية، وفي الطائفة الدرزية وصل نائبان تغييريان وصرنا نتحدث عن تنافس داخلها. وحدها الطائفة الشيعية خارج التنافس. وهذه هي النتيجة الأساسية لما يسمي بـ«الثنائي الشيعي» الذي قام بمسألتين: حصر السلاح غير الشرعي بيده، وحصر التمثيل السياسي والنيابي بيده. لبنان اليوم أمام مفترق تاريخي، تطبيق القرار الدولي 1701 والالتزامات اللبنانية الدولية سيلغيان قدرة «الثنائي الشيعي» على المحافظة على السلاح غير الشرعي، وأي انتخابات جديدة مع بروز بعض الشخصيات من خلال خسارته ولو لمقعد واحد على الأقل يكون قد خسر حصرية التمثيل السياسي والنيابي، ونكون بذلك قد فتحنا النظام السياسي اللبناني على منافسة مستمرة داخل الطوائف، وستكون القوى السياسية التي تتنافس داخل الطوائف بحاجة إلى بناء شبكات تعاون مع مجموعات أخرى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب