كتب

«اختراع العالم» مجموعة الشاعر التونسي محمد العربي: تساؤلات الشعر في خَوارزْميّة دوران الإنسان

«اختراع العالم» مجموعة الشاعر التونسي محمد العربي: تساؤلات الشعر في خَوارزْميّة دوران الإنسان

المثنى الشيخ عطية

يشير السلوك المتشابه للبشر في صورِ تَشَكُّل عُقَدهم، وردود أفعال أجسادِهم، في الصورة العامة ضمن اختلاف حالاتهم، من أجل البقاء، كما يبدو في رؤية الكثيرين، إلى وجودهم ضمن خَوارزميّةٍ، أشارت إليها الكثير من الأعمال الأدبية والفنية السينمائية بخاصة، وقرنتْها بمحاولاتهم اكتشافَها، والخروج من دورانهم في مصيدتها، بدءاً من ملحمة جلجامش السومرية التي تدور حول بحث الإنسان عن عشبة الخلود وفقْدِها حيث لا جدوى، إذ هو مكتوب عليه النوم وسرقة الأفعى لها؛ مقابل مخترع هذه الخوارزمية الذي «لا تأخذه سِنَةٌ ولا نومٌ»؛ وليس انتهاءً بالعمل السينمائي الذي تحدّث عن خوارزمية الـ «ماتريكس»، مروراً بما لا يمكن تجاهله من محاولة بروميثيوس وسيزيف سرقة نار المعرفة الخاصة بالآلهة من أجل الإنسان، وعقابهما بالدوران الذي لا ينتهي، وأفضى بالإنسان إلى تفسير وعيش هذا من خلال طريقين يشكّلان طبيعته المزدوجة هما: طريق الدين، المعبّر عن الاستسلام والتسليم للمخترع بما شاء، عزاءً وسعادةً في هذا؛ وطريق العلم الذي لا يكفّ به الإنسان عن محاولات الخروج من أبعاده الثلاث المرسومة، إلى أبعاد أخرى يكتشف فيها من أين أتى وإلى أين يمضي في دوامة هذه الخوارزمية، وكيف له أن يخرج منها في صراع البقاء؛ عزاءً وسعادةً في خوض تحديات مصيره في ذلك كذلك.
وبمعرفتنا أنّ أعمال أسلافنا الأولى المعبّرة عن محاولات الخروج من الدائرة، قد صيغت شعراً، وأن أعمالَنا الحديثة السينمائية المؤسسة على الرواية بخاصة، لا تخلو من الشاعرية في خلق الصور والرؤى، بدون خوفٍ من انغلاق بوابة اللاوعي، يمكننا أن نعرف ما للشعر في الحقيقة من دور في محاولات الإنسان اكتشاف ماهية وأبعاد خوارزميته، والأكثر من ذلك محاولات الخروج منها عبر إثارة التساؤل حولها، بما للتساؤل من حثّ على الفعل، وعبر محاكاة اختراع عالمنا، بما للمحاكاة من قدرات على اكتشاف أبعادنا، مثلما فعل هاملت في اكتشاف قاتل أبيه.
«اختراع العالم»، مجموعة الشاعر التونسي محمد العربي، تدور كما يبدو، بتضييق العبارة لتوسيع الرؤية، مثلما تفعل بقصائدها المكثفة، حول خوارزمية دوران الإنسان، لاكتشاف أبعاده، بجرأة وعمق الدخول في عالم الذات، والتمحيص في حركتها وتحولاتها، وفي ماهيتها بالأصل، وعلاقة هذه الماهية بالطبيعة التي هي منها، عشبةً أو وردةً أو شجرةً أو عصفوراً يحوّل أغصان الشجرة أجنحةً لتطير الأشجار، وربما جدولاً أو نهراً أو بحراً متحركاً أو بحيرةً ساكنةً، وربما جبلاً وغابةً وشاطئاً يرنو إلى بحر يداعبه أو يجتاحه بأمواجه.
ويفضي قولنا عن دخول العربي في عالم الذات بهذه الطريقة إلى طبيعة امتداد هذه المجموعة من الذات «إلى العالم الأكبر» المنطوي فيها، وفق المقولة المنسوبة إلى علي بن أبي طالب: «وَتَـحْـسَبُ أَنَّـكَ جِـرْمٌ صَـغِـيرٌ وَفيكَ انطَوى العالَمُ الأَكبَرُ»، أو المنطوية هي فيه كذرّة من تكويناته.
وفي ذلك يدخل العربي في عوالم الخلق الممتدة من تصورات الأديان عن خلق الإله للعالم، وتصوراته هو عن ذلك، بإضافة الإدهاش للخلق بكلمة «اختراع»، إلى خلق الشعر للعالم كذلك باختراع ما يقيم المحاكاة لاكتشافات ما يتعلق بالوجود، حيث نقرأ في قصيدة العنوان:
«تُرى ماذا يفعلُ الله الآن/ فيما أفكر في حبيبتي/ هل يفكِّر في امرأة جميلةٍ وهادئةٍ/ بشعر أسود طويلٍ/ يشبه ليلاً حالكاً وثقيلاً/ أم يتأمّل دوران الأرض حول نفسها/ ويرقص مثل زوربا/ حين يعبرُ جرمٌ مخيّلتَه الباذخة/ وتقفز فكرةٌ مجنونة إلى رأسه العظيم/ ويضحك مثل زلزال/ من حكايته التي لا تنتهي».

أبعاد اختراع العالم:

في «اختراع العالم» بعوالم التضاد والتداخل مع الطبيعة وثقافة الإنسان؛ يُكوّن العربي مجموعته بتسعٍ وستين قصيدة نثرٍ قصيرة، تتوالى بأطوال تتراوح بين الصفحة والثلاثة أسطر، مع وجود بضع قصائد بصفحتين، ويوازن توزيع قصائده بتناغمٍ بين الطويلة منها والقصيرة التي يصيغها بأسلوب قصيدة الهايكو اليابانية، في تضييق العبارة وتوسيع الرؤية وتوليد المتعة، مُصرِّحاً بهذا في قصيدة «ابتسامتك»، التي راودته حلماً و«كانت بسيطة ودافئة/ أشبه بقصيدة هايكو/ حقيقية تكاد تُلمس باليد/ مثل عصفور ينفض ثلجاً عن جناحيه/ ويطير». ويؤكد العربي على أسلوبه هذا في تقديم المجموعة بقولين أولهما لأحد رواد قصيدة الهايكو المعاصرة، الشاعر الأمريكي من أصل فيتنامي أوشن فونغ: «أنا خائف من أن يتمكّنوا منّا قبل أن يتمكنوا من فهمنا». والثاني للشاعرة الأمريكية دوريان لوكَس: «لطالما أحببت أكثر مما يلزم أو ليس بما فيه الكفاية».
وفي مناغمة عالم مجموعته المخترَع، يخلّل العربي قصائده بثيمة الاختراع المكونة من ثماني قصائد:

ــ «اختراع الأيام»: التي يفتتح بها المجموعة، ويعالج من خلالها خلق الإنسان للوهم عزاءً أو درعاً للصمود، يُغلق به اللاوعي في الصدمات آلية التفكير التي ربما توقف القلب، أو تفجِّر الدماغ، حيث: «أكذب كلَّ يوم على نفسي/ وأصدِّق كذبةَ اليوم الذي سبقَ/ على أوهامي أن تظلَّ مستيقظة/ كي أجد القوة لأدفع باباً/ على الرغبة أن تظلَّ مشتعلةً/ كي أهتدي إلى طريقٍ/ أمشي إليه كأنه ضوءٌ يتقدم في آخر النفق».

ــ «اختراع مخيّلة»: مجازاً عن تكرار الدوران في خوارزمية صراع البقاء، باختراع مشهد إطلاق أرنب يتبعه سلوقيّ/ ويختفيان معاً تحت أشجار ملتويةٍ.

ــ «اختراع المعجزات»: في تخيّل مخترعٍ ومعجزاتٍ سعيدة، حيث لا أفاعيَ تأكل أفاعٍ، ولا محو لقريةٍ في صراعٍ، فقط: «ينفخ في العتمة/ فتضيء/ تلك معجزته الصغيرة/ أن يحوّل مقبرةً إلى مدينةِ ألعاب/ مشنقةً إلى أرجوحةٍ/ صرخةً إلى زغاريد/ مهنتُه الجميلةُ/ أن يحوّل كل هذا العالم إلى موسيقى».

ــ «اختراع العالم»: كما أسلفنا في قصيدة العنوان، التي يتماهى فيها الإنسان بالإله.

ـــ «اختراع الحبّ»، في ظل الوحدة إذ: «يتشبث بالحبّ/ كما تتشبث ورقةٌ بغصن طريٍّ/ حين ينذر البرق بعاصفة في الأفق…. يخترع له صُدْفةً حين يتأخرُ/ يجلس في انتظاره حين يأتي/ منشغلاً بالطاولة الفارغة أمامه/ بالمرأة التي تجلس بجانبه الآن/ لتحدّثه عن غيابه».

ـــ «اختراع الحياة»، بإطلاقها حرةً، حيث: «أحاول جعل حياتي داخل الحياة/ كمن يحاول حشو غابةِ في أصيصٍ/….. بإمكانك أن تضع عصفوراً في قفصٍ/ لكن رجاءً/ لا تطلب منه أن يغني».

ـــ «اختراع البيت»: في خوارزمية الدوران، بظلّ الحب، الذي ينتهي دائماً بالضجر، حيث: «كم مرّةً رسمنا البيت الذي به كنا نحلم/…. ولنفرض أننا اخترعنا ذلك البيت/ ذلك الحبّ/ مرّة أخرى/ أركض نحوك مثل جرحٍ ينزف/ تقفين في مكانك مثل صخرةٍ في حياتي/ ونجدّف لسنين من بركةٍ إلى أخرى».

ـــ «اختراع اليد»، في عملية الحياة والموت، حيث: «كان يحتاج يداً/ تمسح عن وجهه القلق/…. ما زال ينتظر أن تنجح التجربة/ ما زال يبكي كلَّ يدٍ تمَّحي».
خوارزميات البقاء:

داخل المتخلَّلات بثيمة الاختراع، التي تمتدّ إلى الشعر والشاعر، في قصيدة «ورقة الشاعر»، الذي يتجلّى اختراعه في أن: «يصغي إلى صراخ أطفال يلعبونَ/ لا يركض نحو الأصوات/ إذ أن من يركض نحو الماضي/ يغرق في النسيان»؛ لا تنفصل الكلمة والقصيدة عن مجاز صيد الفريسة/ تناغماً مع فلسفة المجموعة في خوارزمية القتل، حيث: «بعد قليل ستمطر حتماً/ يسيل دم الفريسة في الحقول البعيدة/ وتبتلُّ ورقة الشاعر».
وداخل هذه المتخلَّلات تتجلّى خوارزميات حياة وموت «ابن الوحدة»/ الإنسان، في حياته الشخصية الحافلة بالخذلان، في العلاقات مع الآخر وعلى رأسها علاقة الحب التي سرعان ما يصيبها السأم من التكرار، والندم على ما كان يمكن فعله، مثل اللهو، لاستمرار ألقها، وفي الصراعات الشخصية والجمعية التي تتجلّى فيها خوارزمية القتل، حيث: «ما تطلبه الضحيّة من قاتلها/ وهي ترى الموت يحلّق كصقر جائع في عينيه/… يشهق الميت الحيّ/ بفرصته الأخيرة/ كي تنجو حياته من العدم/ قلبه من الانفجار/ فرصةٌ هي أبديته/ يعض على فنائها بأنيابه/ كوحشٍ جريح يركض في المصيدة/ ويرى الغابة/ تستيقظ في حواسه».
وحيث يجد العربي في هذه المتخلَّلات وطنَه/ تونس بالاسم، في خريفها الآن، «شجرة تين في مغيب»، حيث: «الليل سيرخي سدوله على الحقل/ المرأة الشجرة ستخبّئ شعرها في كيس أسود». وحيث: «التونسيون بقايا عظام في بطون كلاب حاكمٍ يَرِدُ تساؤلاً في: «من أكل البلاد التي نحبّ/ ورمى بعظامنا إلى كلابه الجائعة/ لم يبقَ منّا ما نتحسّر لأجله/ نحن التونسيين/ بقايا عظام مسعورةٍ/ في بطن الكلاب التي لا تشبع».
وفي كل دوران القصائد في جرأة كشف ما يحاول الإنسان الهرب من مواجهته، وفيما يتولّد لدى القارئ من يأسٍ نتيجة تعرية ذاته أمامه، يخوض العربي تجربة توليد الأمل من قلب اليأس في اتباع أسلوب إيقاف القارئ على صراطهما، وترك عملية انحلال اليأس تأخذ مجرها فيه، كما يفعل في  قصيدة «دم أخضر»، التي يتكشف فيها أسلوبه في التداخل، أولاً مع الآية الموجودة في سورة مريم، من القرآن الكريم: «وهزّي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيّا، فكلي واشربي وقرّي عينا»، حيث، يقول في تبيان ظلم الحكام تجاه الأم، المرأة والوطن: «هزّي إليك بجذع شجرة الزيتون/ يسيلُ زيتٌ مبارك/ لونه ما ذرفت عيونك من دموعٍ/ ضاربٌ وجهُك في خضرته/ لكنّ قلب حكامك أسود». مثلما يتداخل مع خمرة عمرو بن كلثوم: «أَلاَ هُبِّي بِصَحْنِكِ فَاصْبَحِيْنَا/ وَلاَ تُبْقِي خُمُوْرَ الأندرينا/ مُشَعْشَعَةً كَأَنَّ الحُصَّ فيها/ إِذا مَا المَاءَ خَالَطَهَا سَخينا». ومع أبو القاسم الشابي في موقفه من أيام الاستعمار: «إذا الشعب يوماً أراد الحياة/ فلابدّ أن يستجيب القدر». والتي تشبه أيام قصيدته الآن، حيث: «لم يرحل الغرباء بعدُ/ إنهم يشربون على مهلٍ دماءَكِ/ مشعشعةً كخمرة عمرو ابن كلثوم/ ملعونةً كأيام الشابّي». ويُدخل في هذا التداخل اليأس، حيث لا ولادة: «من قال إنّ دمكِ أحمر/ من قال لهم اشربوه/ من قال لك هزّي بجذع شجرة الزيتون/ الجذعُ يابسٌ/ ولن يسيل منه سوى الدم»، غير أن القارئ في هذا الختام للقصيدة بتكرار الفاتحة، سيعود طوعاً إلى تأكيد ما قاله الشاعر ويقوله هو في بشارة الولادة: «هزّي إليك بجذع شجرة الزيتون».
إضافة إلى ذلك، داخل المتخلَّلات التي تتركّب فيها الحياة فرائس ومفترسين في خوارزمية البقاء، يفتح العربي باباً لكسر هذه الخوارزمية بالحب، طريقاً وخلاصاً، كما يفعل في قصيدة «أخترق عزلتي بمشقة»، التي يعرض فيها الإنسان، من خلال نفسه، كابن للوحدة، لكنه ابن الطبيعة في ذات الوقت، حيث: «أظنني كنت جبلاً في حياة سابقةٍ/ كلّما فتح ذراعيه/ تساقطتْ من عينيه صخورٌ»، ويورد الحبّ في عمليات التحوّل، حيث: «ما زلتُ أتحسّس وخزَ الحصى تحت قدميّ/ أُصغي إلى تفتّت حجارةٍ في داخلي/ وأنفضُ الترابَ عن جسدي كلما أحببت». ويؤكد ذلك في قصيدة «فكرة ضرورية»، التي يواجه فيها الوحدة بالحبّ: «المجدُ كلّ المجد ليدي/ ما زالت تلوّح لغريبةٍ/ وتكتفي بأصابعي العشر».
محمد العربي: «اختراع العالم»
ميارة للنشر والتوزيع، تونس 2025
84 صفحة.

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب