
لا أحد يطلب الموت إلا من جرّب أن يعيش في اللا جدوى

مريم مشتاوي
في مخيمات لا تشيخ، لكنّ سكانها يشيخون دون كفن.
في زوايا تسلّط فيها الكاميرات مرّة، وتطوى بعدها المآسي في مجلّدات المهملات.
المسنّون الفلسطينيون لا يريدون شيئاً من أحد. لا يستعطفون، ولا يطلبون شفقة. يريدون فقط أن يمنحوا موتاً كريماً، بعد حياة لم تمنح لهم أصلاً.
الكرسي البلاستيكي الذي جلس عليه أحدهم، كان مهترئاً من أطرافه، تماماً كقلبه. عكّازه مائل، نظرته شاردة، ويده ترتعش على ركبته كأنها تسأل: «ألهذه الدرجة نحن بلا قيمة؟».
أحدهم كان يضحك، ضحكة مكسورة، كأنها بقايا صوت كان يعرفه.
قال:» ما عاد في شي ننطره. نطرنا أولادنا، نطرنا رجعتنا، نطرنا الخبز، نطرنا النشرة. ونطرنا الموت. بس تأخّر.»
يا الله، كم في تلك الجملة من وجعٍ لا يوصف.
جميعهم يشتهون الموت لأنه المكان الوحيد الذي لم تطاله طائرات الاحتلال بعد. في العالم المتحضر، يقف المسن على الشرفة ويمتد له العمر ليزرع الريحان ويشرب القهوة بهدوء.
في فلسطين، يقف المسن على الشرفة ليعد الغارات. القلوب لم تعد تحتمل. الرغيف الغائب، الدواء المنقطع، الماء المتسخ، والكرامة التي لا يذكرها أحد. كلها أشياء دفعتهم إلى خيار واحد: أن يطلبوا الموت كمن يطلب السلام.
ما أقسى أن يتمنى من ربّى الأرض، وسقاها من تعبه، أن يموت كي لا يرى شتلاته تجتث.
ما أقسى أن تنظر في عيني رجل عمره ثمانون عاماً وتسمع منه: «ما بدي شي… بس بدي خلص.»
من أين يبدأ الحرج؟ من سكوت العالم؟ من عجرفة السياسة؟ من قسوة الاحتلال؟ أم من صمتنا نحن. نحن الذين نتأمل الصورة ونكتفي بالدمعة؟
لكن لا أحد يسمع. لا أحد يسمع.
أنا من هنا قبل أن يولد الخبز
لم تكن تتحدث عن حقوق الإنسان. ولم تحمل لافتة، ولم تخرج في تظاهرة. لكنها، في صباح بسيط من صباحات بيروت، وقفت أمام الكاميرا، وقالت جملة قصيرة، خفيفة، لكنها شقّت الهواء كما يشقه نداء غريق: «أنا من لبنان… من قبل ما يخلق الخبز.» اسمها «ماري». امرأة إفريقية البشرة، ضاحكة العينين، لم يكتب التاريخ اسمها، ولم تحفظها المذكرات، لكنها كانت هناك. في الظل. حاضرة في كل بيت، غائبة عن كل قرار.
لم تكن ضيفة في هذا البلد. ولم تكن عابرة سبيل. عاشت فيه أكثر مما عاشه كثيرون، حضرت حروبه، وغباره، وثوراته، وعتمته، وضحكته الجريحة. عاشت فيه ما يكفي لأن يصبح لها وجه في كل حي، واسم في كل ذاكرة. كانت صغيرة حين وطئت قدماها مطار بيروت. كانت تظن أنها ستعمل لفترة قصيرة ثم تعود. لكن الزمن لم يكن طيباً بما يكفي ليعيدها.
مر العمر عاماً بعد عام. اتقنت ماري لهجة اللبنانيين، اعتادت مواسمهم، وعرفت رائحة الخبز من الفرن، وصوت الهدنة حين تنطفئ الحرب.
كأنها كانت تلتقط تفاصيل الوطن وتنقشها في ذاكرتها، دون أن تعلن أنها أصبحت منه.
ما من أحد دعاها إلى البقاء، لكنها بقيت. ما من أحد منحها حق الانتماء، لكنها انتمت. صارت تعرف ما لا يعرفه بعض من حازوا الهوية: أن الوطن ليس أوراقاً مختومة، إنما وجع ينمو على حافة الأيام، وخبزاً يخبز على نار التعب، وصباحاً يسقى بماء الانتماء العميق.
لم يكن لماري بيت، لكنها عاشت في مئات البيوت.
لم تكن أماً، لكنها ربّت أطفالاً كأنهم أبناء قلبها … لم يكن لها مفتاح غرفة، لكنها حفظت مفاتيح الصبر، وتعلمت كيف تخفي الدموع خلف ابتسامة «أنا بخير».
لم تطلب شيئاً. كانت تقف في الزوايا، تنظّف، تحضّر، تبتسم، ثم تختفي.
كأن وجودها مؤقتا، رغم أن حضورها امتدّ أكثر من نصف قرن. خمسة وخمسون عاماً من العمل، من الصمت، من الانتماء القسري.
ثم، حين طافت الأيام برأسها، استجمعت جرأتها وقالت بهدوء: «أريد جنسية… لا لتكرّموني، بل لأموت هنا دون أن أعتبر غريبة.»
تمنح القوانين الجنسية عبر النسب، أو الزواج، أو الاستثمار. لكن ماذا عن ماري؟
ماذا عن خمسين عاماً من الخدمة الصامتة، والحنان المجاني، والولاء الهادئ؟ هل يشترط أن تكون من سلالة جبل ما كي تدعى لبنانياً؟
ماري لم تطلب يوماً معونة، ولم ترفع صوتها.
كان يكفيها أن تسمّى «إنسانة».
لكن الزمن أطال غربتها. تركها على هامش القانون، وكأن السنوات التي منحتها لهذا الوطن كانت بلا وزن، بلا صوت، بلا أثر. أحياناً، لا يولد الإنسان في وطنه.
وأحياناً، لا يمنح المرء حق الانتماء بورقة أو ختم.
فالحقّ ينتزع من قلب التجربة.
ماري كانت هنا في كل صباح تعدّ فيه القهوة لسيدة تنام متأخرة.
كانت هنا حين هرع الأطفال إلى مدارسهم، ووقفت هي على الباب تلوّح بيدها دون أن يراها أحد.
كانت هنا حين شح الخبز، وكانت في الطابور لأجل الأسرة التي تخدمها. من علّمها كل هذا الولاء؟
من زرع فيها هذا الإخلاص؟
أليست هذه، بالضبط، مواصفات المواطن الحقيقي؟
حين خرج صوت ماري إلى العلن، خرج لأجل كثيرات مثلها.
نساء طمرهن الصمت، وحجبهن القانون، رغم أنهن حملن لبنان في قلوبهن أكثر مما حمله كثيرون ممن يرتدون ربطة عنق، ويتحدثون عن الوطنية في الخطب.
ماري ليست استثناء. هي القاعدة التي رفضنا رؤيتها. هي مرآتنا التي أهملناها، لأننا لا نحب أن نرى وجهنا حين يكون في موقع الظلم.
كل ما تريده ماري اليوم ليس مالاً، ولا تكريماً، ولا كلمات مؤثرة. تريد فقط ورقة تقول إنها من هنا.
تريد أن تنتمي رسمياً لما تنتمي إليه وجدانياً منذ أكثر من نصف قرن.
هل هذا كثير؟
هل من العدل أن تموت امرأة في أرض عاشت فيها عمراً، دون أن تسمّى ابنة لهذه الأرض؟
هل من المقبول أن يكتب على قبرها: «غريبة»؟
«أنا من لبنان.. من قبل ما يخلق الخبز».
قالتها بخفة ظل، لكننا نعرف جيداً أن خلف تلك العبارة عمراً كاملاً من التعب. الخبز خبز كثيراً في غيابها عن المائدة.
لكن اليوم، يجب أن تجلس. أن تكون بيننا، لا على الهامش، لا خلف الباب، لا العاملة التي نسينا أن ننظر في عينيها.
آن أوان الاعتراف… آن أوان العدالة… آن أوان القول:
ماري… لبنانية. لبنانية لأنها زرعت شيئاً من روحها في هذا البلد، وما زالت تنتظر أن يزهر في صدرها وطن.
*كاتبة لبنانية