مقالات
الهجرة: حين ولدت العروبة من رحم الروح، وحين صاغت السماء جسد الأمة بقلم أ.طارق عبد اللطيف ابوعكرمة -الهدف السودانية –
بقلم أ.طارق عبد اللطيف ابوعكرمة -الهدف السودانية -

الهجرة: حين ولدت العروبة من رحم الروح، وحين صاغت السماء جسد الأمة
بقلم أ.طارق عبد اللطيف ابوعكرمة -الهدف السودانية –
في مطلع عام هجري جديد، لا نكتفي بعبارات التهنئة المكرورة، بل نُصغي لرجع الصوت الأول الذي حرّك التاريخ من سكونه، وللحظةٍ كونيةٍ حاسمة لم تكن مجرد عبورٍ جغرافي من مكة إلى يثرب، بل ولادةٌ لزمنٍ جديد، انتقل فيه الإنسان من عبادة الطاغوت إلى أن يُولد حُرًا من جديد.
لقد كانت الهجرة النبوية لحظة انفجار المعنى، لحظة ميلاد أمة لا على أسس العرق والدم، بل على أسس الفكرة والمبدأ، والوعي والعقيدة. وفي قلب هذه اللحظة، لم يكن محمد ﷺ رجل دين فحسب، بل كان، كما قال الاستاذ ميشيل عفلق: (أعظم ما في محمد ﷺ أنه في كل لحظة من حياته، كان يجسّد معاني الحرية والكرامة، ويصوغ الأمة من روحه). لقد حمل محمد ﷺ العرب في قلبه، فأصبح كل العرب، وخرج برسالته من حدود القبيلة إلى آفاق الإنسان، ومن لحظة البعث إلى مسيرة التاريخ.
من الصحراء خرج محمد ﷺ ، ولكن صوته ظل يدوّي في الزمن، يشقّ طريقًا للعرب نحو الوجود. لقد جاء من رحم العروبة، ولكنه لم يُحاصرها، بل رفعها إلى مقام الرسالة، إذ كما عبّر الاستاذ عفلق:(لم يظهر محمد ﷺ في العرب صدفة، بل لأنه كان منهم، وكان هو العرب في ذروتهم الروحية).
واليوم، في لحظة تاريخية شبيهة، لا تقاس المسافات بالأميال، بل بالأفكار. لم يعد الانتصار يقاس بعدد الغزوات، بل بعمق الوعي، ومقدار القدرة على حمل الرسالة من جديد، بروحها لا بحروفها، بجوهرها لا بقشورها. وها هو الشهيد صدام حسين يهمس في ضمير العروبة: (الإيمان لا يُستعار، والكرامة لا تُوهب، والحرية لا تُنتزع من أحد، بل تُبنى في الداخل قبل الخارج). تلك هي روح الهجرة اليوم: هجرة من الجمود إلى التجدد، من التبعية إلى السيادة، من الطاعة العمياء إلى الفهم العميق.
لقد جسّد محمد ﷺ الأمة في ذاته، فلم يكن نبيًا فحسب، بل كان مشروعًا للإنسان الكامل، وكان كما يجب أن يكون كل العرب: حرًا، عادلًا، رؤوفًا، قويًا، وصادقًا. فليكن اليوم كل العرب محمدًا، لا في استنساخ الشكل، بل في انبعاث الروح، في صنع العدالة، في العلم والحكمة، في تحرير الذات لا قهر الآخرين. لقد كان الشهيد صدام حسين يردد دومًا: (نحن لا نحاكي محمّدًا في اللفظ، بل نحمله في الروح، نستلهمه في القرار، نُجسّده في الفعل، لا في الشعارات).
إن أبا بكر حين وقف يصرخ:(من كان يعبد محمدًا فإن محمدًا ﷺ قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت)، لم يكن يُعلن الحداد، بل يفتح باب التاريخ ليُكمل الرسالة بالوعي، لا بالنبوة. وعمر حين قال: (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟) كان يضع اللبنة الأولى لدولة الإنسان. وسلمان حين قال عنه النبي: (سلمان منا أهل البيت)، كانت تلك لحظة إعلان عالمية العدل، وكسر الطوق الجغرافي والقبلي. وبلال حين صدح بالأذان فوق الكعبة، كان يعلن انتصار الفكرة على السادة، وعلو الروح على الأنساب.
كل أولئك لم يكونوا أفرادًا، بل تجليات لأفكار خالدة.
ولذلك، ما أحوجنا اليوم إلى أمة لا تكتفي بإحياء الذكرى، بل تستولد منها المعنى.
عام هجري جديد يجب أن يكون فرصة لاجتماع الروح بالعقل، والوحي بالكرامة، والدين بالحرية، والعروبة بالرسالة. لقد كان محمدٌ ﷺ ولادةً ثانيةً للعرب، فلنكن نحن ولادة ثانية لمحمد ﷺ ، نحمله معنا لا في الكتب وحدها، بل في بناء المدرسة، في مقاومة الظلم، في شرف الكلمة، في ترميم الوجدان المهدوم.
الهجرة دعوة دائمة للبعث، للانبعاث، للصعود من قاع التيه إلى قمة الوعي.
فليكن كل عام هجري جديد، هجرة من الخنوع إلى السيادة، من التقليد إلى التجديد، من الاستهلاك إلى الإبداع.
ليكن كل منا محمدًا من جديد.
ولنكتب في سجل الزمن العربي:
لقد هاجر محمد ﷺ من مكة، فلتهاجر أرواحنا اليوم من التبعية إلى الحرية.
ولنحفر في ذاكرة الكون أن الرسالة لا تموت، ما دام في الأمة روح تولد من جديد