منوعات

مروان مخول: أتمنّى لو وفّرت لي الدنيا وقتاً للكتابة قصيدتي بنت الواقع وثقافتي مُعاشة

مروان مخول: أتمنّى لو وفّرت لي الدنيا وقتاً للكتابة قصيدتي بنت الواقع وثقافتي مُعاشة

زهرة مرعي

بيروت ـ  في سوق الشعر الفرنسي كان اللقاء الثاني بالشاعر مروان مخول، بعد العاصفة التي خلّفها في بيروت سنة 2015 إثر حضور جمعه مع أميمة الخليل على مسرح قصر الأونيسكو. حينها أطرب بإلقائه وشاعريته كلّ عقل. حزنت لنصفه اللبناني المشلوع عن نصفه الفلسطيني، ومن مرمى حجر. عشر سنوات مرّت والشاعر يزداد توثباً في لغته ومراده الوطني والإنساني. وفي حضوره الفرنسي قاطعه المنصتون مراراً، واستمرّ منحنياً وشاكراً للحظات عند كلّ ختام. ترك صاحب قصيدة “نيو غزّة” بليغ الأثر بالمتلقين لقراءاته الشعرية، ومسّ بهم مكاناً حساساً مع قصائد أكثر مباشرة وتحدياً. إنه منصهر بشعره، وبارع في عكس حالته على المتلقين.
حقق مروان مخول انتشاراً إستثنائياً. اختراق قلوب بالهوينة. وكأن الاهتمام بقصائده يُطهى على نار هادئة، من خلال مئات الأمسيات التي أحياها في العقد الأخير، امتدّت من الهند شرقاً، إلى الاكوادور غرباً. الانكشاف على الحضارات الأخرى شكّل دافعاً قوياً، ونقطة انطلاق مذهلة بعد الحرب على غزة. اُخرجت بعض أبياته من الذاكرة، واقْتُبست تضامناً مع الإنسان المقموع، كمثل قوله “لكي أكتب شعراً ليس سياسياً يجب/ أن أصغي إلى العصافير/ ولكي أسمع العصافير يجب/ أن تخرس الطائرة”.
بيت تحول إلى جدارية تُغطي بنايات وجدران الشوارع في كافة قارات العالم، وشعاراً للمظاهرات المنددة بالحرب على غزّة. اقتبسه مشاهير من رؤساء دول وفنانين وموسيقيين، ومن آخرين مؤثرين على شبكات التواصل الاجتماعي التي يتتبعها الملايين. بيت بسيط اكتسح ذائقة الشباب في جنوب أمريكا، وجعلوا منه وشماً محفوراً على أجسادهم منددين من خلاله بالظلم.
مع الشاعر مروان مخول هذا الحوار:
■ حلّت فلسطين ضيف شرف على “سوق الشعر الفرنسي” بعد تردد. فهل أتى التردد لصالح فلسطين؟
■ كنت أفضل أن تتم استضافة فلسطين في “سوق الشعر الفرنسي” قبل أن يسقط لنا أكثر من 50 ألف ضحية. لسخرية الأقدار تتصرّف فرنسا في هذه الأيام، أفضل بكثير من بعض أن لم يكن كافة الدول العربية الشقيقة.
■ ماذا عن المعطيات التي حسمت الموقف؟
■ ما أعرفه أن استضافة العام الماضي كانت مقررة، وألغيت إثر ضجيج، والفلسطينيون هذا العام ضيوف شرف.
■ ماذا عن دور الشاعر والأديب عبد اللطيف اللعبي بحسم الموقف؟
■ عبد اللطيف اللعبي إنسان جميل ومثقّف، يُعنى بالأدب والشعر الفلسطيني منذ عقود، يمتلك باعاً طويلاً في تسليط الضوء على أدبنا، خاصة من خلال الأنطولوجيات الشعرية الفلسطينية التي أنجزها العام الماضي. شكراً لعبد اللطيف ولصديقنا ياسين عدنان في تسليطهما الضوء على الأصوات الشعرية الفلسطينية الشابة.
■ كم قرّبت تلك المساهمات الشعراء الشباب من جيل أوروبي أوسع؟
■ مساحة الانتشار للشعراء المشاركين في سوق الشعر تتفاوت بين شاعر وآخر في أوروبا أو العالم. وقد تكون هذه الفرصة أولى لأحدهم، وقد تكون فرصة أخرى جيدة لآخرين. دون شك أبرز سوق الشعر الفرنسي دور كلٍ منا، وتحديداً في فرنسا.
■ وهل هو حضورك الأول في فرنسا؟
■ بل شاركت في لوديف قبل أكثر من عقد، مهرجان توقف لأسباب إدارية. شاركت في مهرجانات شعر في معظم العواصم الأوروبية تقريباً، وفي أمسيات وندوات. أعتقد مشاركتي الجادة والمهمة كانت في سوق الشعر الفرنسي.
■ عَرِفت أوروبا جيلاً أولاً مؤثراً بشعره عن القضية الفلسطينية. كيف استقبلتكم كجيل جديد؟
■ باعتقادي أني اُدعى كشاعر لما تحمله قصائدي من مستوى فني ما. ودون شك تساهم فلسطينيتي في قيمة حضوري كشاعر. مشاركاتي تقتصر على مهرجانات شعرية صرف، وليست مهرجانات سياسية تستضيفني كشاعر فلسطيني، باستثناء سوق الشعر الذي أراد المنظمون من خلاله إرسال رسالة ما.
■ قراءات شعر للمغيبين ومن بينهم شهداء كما رفعت العرعير. تعبير يثير الألم؟
■ هم ليسوا مغيبين، بل غائبون. يحاولون استحضار قصيدة هذا الشاعر أو تلك الشاعرة، من أجل ابراز دوره/ها رغم أن الحواجز منعت وصوله، أو تعذّر عليه الحضور، أو استشهد/ت. أشكر سوق الشعر على تسليط الضوء على هؤلاء الشعراء.
■ ما هي المتغيرات التي طرأت على شعر مروان مخول في السنتين الماضيتين؟
■ في فنية القصيدة، أعتقد بأني وكما كافة الشعراء، يتواصل التطور من قصيدة إلى أخرى، ومن ديوان إلى آخر. أعمل لأن تُصبح قصيدتي أبسط، وأسهل، وأقرب للمتذوق العام، وأقل غوصاً في الاستعارات التي تبحث عن متلق نخبوي. أسعى قدر المستطاع لقصيدة مفهومة لدى العامة، وأصرّ على احتفاظها بجودتها وفنيتها التي أريدها دائماً عالية. معادلة الجمع بين أن تكون مفهوماً وتكون الشاعرية عالية في ذات النص ليست بالأمر السهل. على صعيد الجماهير أعتقد بأن السنتين الأخيرتين كانتا مفصليتان في مشروعي الشعري. ففي السنة الأخيرة شاركت في أكثر من 20 مهرجاناً شعرياً في كافة أنحاء العالم، وأمسيات خارج المهرجانات، وبعضها دُعيت إليها كشاعر فقط، وبعضها سلّط الضوء على الرسالة الإنسانية والسياسية الموجودة في قصيدتي.
■ وتعددت ترجمات كتبك في السنتين الأخيرتين. فكم عدد اللغات؟
■ تزيد عن الـ15 لغة. جميعها لغات حية، وتتفاوت بين واسعة الانتشار والمحدودة كما لغة التالوغو، والملارمية، والبنغالية.
■ لماذا برأيك اختيار عنوان “أن تخرس الطائرة” للكتاب الذي تُرجم للفرنسية ووقعته في سوق الشعر؟
■ هو اختيار الناشر الفرنسي. كما أخبرني أراد الربط بين جملة شعرية وجدت شهرة عالمية وبين الشاعر، ليشير بأنه ديوان لمن كتب هذه الجملة.
■ وماذا يعني لك هذا الوصل أو التعريف؟
■ لا أريد ارتباطاً بجملة أو قصيدة، بل أن أبقى على تطور دائم، واستبدل هويتي بأخرى أفضل وأكثر تطوراً من السابقة. لا أريد التقوقع بل تبديل هويتي الشعرية دائماً.
■ إذاً كيف تعمل على تطوير أدواتك؟
■ إنها القراءة اليومية الصارمة الملازمة لي منذ ثلاثة عقود وبدون توقف. قراءة لمشاريع شعرية أخرى قديمة وحديثة، ولكبار الشعراء الموجودين أو الراحلين، ولشعراء شباب. وأحاول في النص ذاته تجريب أساليب جديدة ومختلفة.
■ ومتى ترضى عن نصك؟
■ أكتب القصيدة خلال ساعات أو يوم أو يومين، وأعمل على تشذيبها بمدة أطول. لدى بلوغ العجز عن حذف فاصلة أو إضافة أخرى، أعتقدها تمّت، وعندها إما أن ألقيها، وإما أن تُغنّى، أو تُقدّم على المسرح. دعيني أقول بأني من مناهضي أن تكون القصيدة في كتاب. عندما تُنجز القصيدة إما أن تُقرأ للجمهور، أو نسمع صوتها ووقعها.
■ وهل للجمهور سلطة التغيير في القصيدة؟
■ دائماً. عندما أقرأ القصيدة يساعدني الجمهور على فهم الذائقة. اهتم بتطوير الأسلوبية بشرط العودة والإحتكام إلى ذائقتي. أكتب القصيدة من مكان ذاتي جداً. أعرف بواطن قوة النص والتلقائية التي تجذب الجمهور. الأهم عندي هو الصورة الشعرية في القصيدة المبتكرة الحديثة والمختلفة، وليس الإيقاعية والجمالية.
■ لأي جمهور تُلقى القصيدة بِكْراً؟
■ استمعت إلى خطابات سياسيين كُثر خلال حياتي، وكنت أدرك سلفاً حلول لحظة التصفيق. وهذا ليس مدعاة للتقدير بل العكس. على الكاتب أن يفاجئ الجمهور، وأن يصدمه لحظة الإلقاء، لا أن يتوقع لحظة دهشته بل كسرها. للتأكيد أكرر أن هذا الجمهور ليس موجوداً لحظة كتابة القصيدة. التعامل معه وفرض اللعبة يجري خلال إلقاء القصيدة. أحياناً اُدرك أن تصفيقاً حاداً سيلي جملة ما، فأهتم بأن لا يأخذ الإلقاء الجمهور إلى ذاك المكان من هذا المقطع أو ذاك. هي عملية مراوغة فورية مع المتلقي، مباشرة وعفوية، لعبة جميلة استسيغها وأعمل عليها دائماً، وللمرة الثالثة أؤكد بأن هذا يتعلّق بلحظة الإلقاء وليس الكتابة التي هي بنت التواصل مع الإحساس الداخلي والذات.
■ ربما خيط الوصل مع المتلقي يُحفّز لعبتك. كشاعر ما هو التغيير الذي تتمناه في حياتك؟
■ سؤال يلامس الوجع. قبل حوارنا بدقيقة تلقيت رسالة من عملي كمهندس أعمل في البناء. رسالة صعبة أرّقتني وأقلقتني، وفي الدقائق العشر الأولى من الحوار لم أكن معك كشاعر، بل كمهني يفكر بحل مشكلة. كشاعر أعيش في الداخل الفلسطيني أعمل ليل نهار من أجل لقمة العيش، وفي مجال صعب جداً يمنعني من التفرغ، ويحول دون الصفاء الذهني كي أفكر في الجماليات وفي القصيدة. أتمنى بلوغ مرحلة لا تكون لقمة العيش وثّابة، وطاغية على نهج حياتي اليومي، لأتمكن من مزيد من التأمل والتفكير، وأن اشتغل أكثر على النص وعلى التفكير الكوني. أعمل ليس فقط من أجل لقمة العيش، بل أحب مهنتي. لست أدري إن كان هذا تناقضاً، إنما الحياة صعبة بين من يعمل في مجال يمتاز بالصعوبة وبكثير من الناس، وبمشاكله اليومية واللحظية المؤرقة. انه بالتأكيد تناقض مع الشاعر الذي يحتاج للتأمل وصفاء الذهن. الحياة بين عالمين مختلفين ومتناقضين يُصعّب مشروعي الشعري. أتمنى عملاً أقل في المستقبل، والتفرّغ أكثر للكتابة. من دون شك لست كالكثير من الشعراء الأوروبيين والعرب، الذين مكنتهم المؤسسات أو الدول أو البيئة الحاضنة من لقمة العيش، وتفرغوا للكتابة. أتمنى لو وفرت لي الدنيا وقتاً للكتابة، وعدم وجوده قد يجعل قصيدتي يومية. هذا الاختلاط في الحياة والتشابك بين العمل والناس والغابة التي نعيش بها، ربما يعكس على قصيدتي حياة ما، وأجواءً تأتي من الواقع المُعاش، وليس فقط من الواقع المقروء والمكتوب. ثقافتي الحياتية ليست ورقية بقدر ما هي ثقافة مُعاشة.
■ وماذا عن مردود ترجمة شعرك؟
■ في السنوات الأخيرة بات هناك بعض المردود من قصائدي وكتبي، ومن استعمال قصائد في أغنية أو منشور. ولم يبلغ بعد مكاناً آمناً.
■ قراءات الشعر الفلسطيني في إطار سوق الشعر امتدّت من باريس إلى مارسيليا والكسمبورغ وبلجيكا. ماذا تقرأ في هذا؟
■ أنا مع استغلال أية امكانية للوصول إلى كل قارئ. وأن يُستغل الأدب من أجل خدمة قضية شعبنا. كشعراء ليس لنا أن نوقف هذا الاحتلال عن ممارسة الإجرام بحق شعبنا. للقصيدة دورها وتشكّل أحد روافد المقاومة.
■ إلى صدور ترجمة لمختارات من شعرك عن دار “La Kainfristanaise” في فرنسا “أن تخرس الطائرة” هل من جديد آخر أوروبياً؟
■ قبل شهرين صدرت مختارات من قصائدي باللغة الهولندية. وقبل نحو نصف سنة صدر كتاب مترجم إلى الإسبانية في الإكوادور. وقريباً سيصدر كتاب باللغة الإيطالية وآخر بالإنكليزية.
■ نلحظ حضورك الغربي واسعاً جداً قياساً لحضورك العربي. لماذا؟
■ صحيح 99 في المئة من مشاركاتي الشعرية غربية. اُدعى إلى هذه المشاركات من دون أي جهد سواء كان غربياً أو عربياً، وبالأمس تلقيت دعوة للمشاركة في بولندا.
■ تسعى للتعاون مع الفنانة أميمة الخليل فما هو الجديد؟
■ صلتي بأميمة تتجاوز علاقة شاعر بصاحبة صوت مُعبّر ومسؤول. أميمة مشروع صديق وفي، علاقتي بها متينة، ومستوياتها تتجاوز الوصف، وفيها الكثير من الإخلاص، وأفتخر بالمشترك معها دائماً. هي بنفسها تقوم على بناء مشروع أميمة الجديد، وأنا مؤمن به، وجندي فيه. وللمصادفة وأثناء هذا الحوار في سان جرمان في باريس يجري تسجيل الموسيقى لعمل يجمعني مع أميمة الخليل والموسيقي الفلسطيني حبيب شحادة. هو مشروع لبناني فلسطيني من تأليف وتوزيع وإشراف حبيب شحادة، ويتطلع لأرشفة عقدين مرّا من الزمن على الصعيد الفني، والسياسي والاجتماعي في الشرق الأوسط. يكتسب المشروع أهميته من تنوعاته الموسيقية، وتنوعات قصائده. وسيصدر أيضاً بعنوان “أن تخرس الطائرة” في بدايات عام 2026. المؤلف والموزع الموسيقي الصديق حبيب شحادة في باريس يسجّل مع موسيقيين فرنسيين وعرب، هو تأليف خاص ومميز، وللعمل أن يتحدّث عن نفسه قريباً.

«القدس العربي»:

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب