افتضاح مراكز المساعدات: خطط التهجير الضمني لا تعمل

افتضاح مراكز المساعدات: خطط التهجير الضمني لا تعمل
فشلت آلية توزيع المساعدات الأميركية في غزة بتحقيق أهداف التهجير، رغم أنها تضمّنت أدوات قتل وإذلال فاقمت من معاناة المجوّعين.

غزة | لم تفلح السمعة السيئة التي تحيط بـ«مؤسسة غزة الإنسانية» الأميركية، حتى بعد تسبّب الأخيرة في استشهاد وإصابة نحو 900 جائع خلال 40 يوماً من عملها، في إلغاء دور المؤسسة الدموي في المشهد الغزيّ البائس. ففي خلال الأيام الماضية، طالبت 130 هيئة حقوقية وإنسانية حول العالم، بعدم التعامل مع المؤسسة، كما رفض مصرف «يو بي إس» السويسري طلباً منها بفتح حساب لها لديه، وذلك في وقت تواصلت فيه المواقف الدولية الرافضة لآلية توزيع المساعدات، ومنها إدانة الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، للطريقة التي توزّع بها المساعدات في القطاع، وأيضاً إدانة «وكالة غوث وتشغيل اللاجئين»، «امتهان كرامة وإنسانية سكان القطاع وإهانتهم».
ويتقاطع الموقف الدولي الساخط أيضاً مع شعورٍ إسرائيلي مدوٍّ بالفشل في تحقيق الهدف المضمر من آلية المساعدات الجديدة؛ إذ ذكرت صحيفة «هآرتس» العبرية، أنّ أحد جوانب الخلافات في الحكومة يتعلّق بـ«الخطّة الفاشلة لإنشاء مراكز توزيع المساعدات بإشراف الشركة الأميركية»، والتي كان الهدف منها نزع السيطرة على المساعدات من أيدي «حماس»، ودفع الفلسطينيين إلى النزوح إلى منطقة المواصي جنوبي القطاع، وصولاً إلى دفعهم إلى شبه جزيرة سيناء عبر الحدود مع مدينة رفح. وبحسب الصحيفة العبرية، فإنّ مصادر أمنية اعترفت بأنّ الخطّة لا تحقّق أهدافها، وبأنّ قلّة من السكان فقط تنجح في الحصول على المساعدات بهذه الطريقة، لأنّ الطريق إلى مراكز التوزيع طويلة جداً ومحفوفة بالمخاطر، كما أنّ مئات الفلسطينيين المدنيين قُتلوا برصاص جنود الجيش قرب تلك المراكز.
والواقع أنّ مراكز التوزيع الأميركية خرجت من حسابات فلسطينيّي القطاع، فيما لا تُقدم على رحلة الشقاء اليومية سوى مجموعة محدودة من السكان، تغامر يومياً بالتوجّه إلى مراكز التوزيع الأربعة، ليُقتل منها العشرات ويصاب المئات بشكل روتيني. والمغامرون الذين يعودون بما تستطيع أجسادهم حمله، تأخذ المساعدات التي حصلوا عليها طريقها إلى الأسواق العشوائية، حيث تُباع إلى الأهالي بمبالغ مرتفعة جداً بالنظر إلى ندرة ما هو متوفّر من بضائع. أمّا لماذا يعزف المجوّعون عن خوض المغامرة؟ فيؤكّد معتز أحمد أنّ مراكز التوزيع الأميركية «صنعت، خلال الـ40 يوماً الماضية، طبقة جديدة من المجتمع، هؤلاء استطاعوا تشكيل شبكة عصابات متماسكة تحتكر السطو على المساعدات من كل مَن يذهب إلى مراكز التوزيع من خارج إطارهم».
ويضيف: «هؤلاء تحوّلوا إلى تجار وأغنياء حرب، يذهبون في ساعات مبكرة إلى مراكز التوزيع ليتسنّى لهم الدخول إلى حلبة التوزيع فور فتحها، ويسيطرون في البداية على كل ما هو غالٍ ونادر، مثل البسكويت والسكر وزيت القلي، ثم يقومون بنقلها سريعاً إلى مكان آمن وقريب من موقع التسليم، قبل أن يبدؤوا بسرقة المساعدات من كل من استطاع الظفر بطرد غذائي وهو في طريق العودة، وذلك تحت تهديد السلاح الأبيض».
ويتابع أحمد الذي خاض غمار التجربة عدّة مرات، في حديثه إلى «الأخبار»: «تباع البضائع والطرود المسروقة في الأسواق بعشرة أضعاف سعرها الطبيعي، مراكز المساعدات تلك صنعت طبقة من الأغنياء الجدد الذين يحتكمون على سيولة نقدية كبيرة، وهم من اللصوص والبلطجية، ويتحكّم هؤلاء بسعر السوق، ويحدّدون سعر السلعة التي يسرقونها».
وصف سموتريتش آلية توزيع المساعدات عبر مصائد الموت الأميركية بأنها «نقطة فاصلة في مسار الحرب»
وكان وثّق تحقيق نشرته وكالة «أسوشيتد برس» ممارسات الجنود الأميركيين وجنود الاحتلال في مراكز التوزيع. وعرضت الوكالة مقاطع مصوّرة حصلت عليها، تُظهر مئات الفلسطينيين هم يتدافعون خلف بوابات حديدية وسط أصوات طلقات نارية وانفجارات واستخدام رذاذ الفلفل. وفي إحدى اللقطات، يُسمع حراس أميركيون وهم يتحدّثون عن كيفية تفريق الحشود ويتبادلون عبارات التشجيع بعد إطلاق النار. إذ يقول أحدهم: «أعتقد أصبت أحدهم»، ليرد آخر بحماس: «نعم يا فتى».
كما تُظهر صور أخرى رجالاً بزيّ رمادي وصفهم المتعاقد بأنهم زملاؤه، وهم يلقون قنابل صوتية وسط الحشود المجتمعة في ممرّ ضيق، بينما يواصل آخرون إطلاق الرصاص فوق الجموع أو تحت الأرض. ويذكر تحقيق الوكالة أنّ الأخيرة اطّلعت على وثائق داخلية توثّق استخدام 37 قنبلة صوتية، و27 قذيفة مطاطية ودخانية، و60 عبوة من رذاذ الفلفل في إحدى المرات، خلال شهر حزيران الماضي، فيما لم يشمل ذلك الرصاص الحي.
تجدر الإشارة إلى أنّ مراكز التوزيع الأميركية مرّت بعدّة مراحل لجهة استجابة الشارع الغزي لها، إذ بدأت بالاندفاع غير المحسوب من عشرات الآلاف من المواطنين، وذلك في ذورة المجاعة التي ترافقت مع بداية عملها مطلع الشهر الماضي، ثم أخذ الإقبال على الذهاب إليها يتراجع مع زيادة أعداد الشهداء والمصابين. ورغم استمرار توجّه عشرات الآلاف إليها بشكل يومي، إلّا أنّ تلك الأعداد تشكّل أقلّ نسبة، خصوصاً بعد قيام جيش الاحتلال باعتقال عشرات الشبان من محيط مراكز التوزيع.
على أنّ آلية التوزيع الإسرائيلية الأخرى، لا تقلّ وحشية عن مصائد الموت، إذ يجبر جيش الاحتلال سائقي المساعدات على التوقّف في نقاط معيّنة يحتشد فيها مئات الآلاف من منتظري المساعدات، ويجهض أيّ محاولة لتأمينها وتوزيعها وفق الآلية السابقة، كما يتعمّد إطلاق النار من دون مبرّر على الأهالي. «كل يوم تحدث معركة وتدافع واقتتال بسبب العشوائية، تتوقّف الشاحنات ويبدأ التدافع، يموت عشرات الناس خنقاً أو بسبب الزحام أو دهساً تحت عجلات الشاحنات، ويقتل يومياً ويصاب العشرات بسبب القصف المباشر وإطلاق النار المكثّف من جيش الاحتلال»، يقول حمزة عساف.
ويضيف، في حديثه إلى «الأخبار»: «يجبرنا الاحتلال على أن نفقد آدميّتنا حتى لا نموت جوعاً، الأسعار في الأسواق فلكية، وإذا لم تتحرّك وتبحث عن رزق أولادك في مراكز التوزيع الأميركية أو عند الشاحنات، فستموت جوعاً».
وسبق أن وصف وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموترتش، آلية توزيع المساعدات عبر مصائد الموت الأميركية بأنها «نقطة فاصلة في مسار الحرب»، في حين تتمسّك حركة «حماس» وفصائل المقاومة بإجهاض آلية التوزيع الحالية عبر التمسّك بالبروتوكول الإنساني المعمول به سابقاً، والذي تنفّذه المؤسسات الدولية، في أيّ صفقة تبادل ووقف إطلاق نار مقبلة.