نقاش في الفعل التحرّري العام [2]

نقاش في الفعل التحرّري العام [2]
انهار الاتحاد السوفياتي عام 1991: لم يصبح العالم «أفضل» كما زعم قادة المعسكر الاستعماري الذي أطلق على نفسه اسم «العالم الحر». كذلك لم يشكّل ذلك «نهاية التاريخ» كما زعم منظّروه. على النقيض من ذلك، استمرت النزاعات وتفاقمت وبلغت ذروة غير مسبوقة حين دفع الشعور بفائض القوة الطرف الاستعماري الأقوى، أي واشنطن، إلى غزو واحتلال أفغانستان فالعراق… وصولاً إلى ما يحصل في منطقتنا، منذ حوالى 20 شهراً، من إفراط همجي في استخدام القوة عبر «حرب الإبادة» الوحشية في غزة، والاعتداء على سيادة وأمن دولة كبيرة مثل إيران، ومثلها سوريا، وقبلهما لبنان، واليمن.
يجري ذلك تحت عنوان بدأه «المحافظون الجدد» ويواصله دونالد ترامب ومحتواه: وضع قوة أميركا في خدمة اقتصادها واحتكاراتها، خصوصاً في المرحلة الراهنة حيث تصبح المنافسة، في نطاق العولمة الأميركية نفسها، مصدر قلق للطرف الأميركي أمام العملاق الصيني خصوصاً.
في مقالي السابق، السبت الماضي، أشرت إلى القصور التقييمي الفادح الذي أعقب الانهيار السوفياتي. وهو قصور في الوقوف على حقيقة الأسباب وصياغة الاستنتاجات الضرورية لاستئناف النضال في ظروف تشهد تعاظماً لاستقطاب الثروة، وتصاعداً لوتيرة الاستغلال، وبالتالي تعمقاً موضوعياً للنزاع أو للصراع الطبقي، على مستوى العالم. في السياق، تجنح دول المتروبول الاستعمارية إلى مواصلة استهداف مكتسبات اجتماعية ونقابية وسياسية للطبقة العاملة وللفئات الشعبية.
نجم عن ذلك تزايد خسارة عشرات الملايين حول العالم لوظائفهم تحت تأثر استخدام وتسخير المنجزات العلمية في حقول التكنولوجيا والاتصالات والعلوم والذكاء الاصطناعي، في خدمة تعظيم الأرباح والنهب والهيمنة (إدارة ترامب تجسّد ذلك الآن على نطاق واسع). يتصل بذلك المزيد من استخدام القوة بغرض التوسع والقمع وانتهاك سيادة الدول وتهديد أمنها ومصالحها.
ألم يكن من الواجب تحويل الأزمة إلى فرصة لو أن القوى التحررية صاغت برامج وسياسات وعلاقات جديدة، واعتمدت مقاربات شاملة وأكثر تساوقاً مع مستوى نضوج العوامل الموضوعية والذاتية في ميادين الصراع المتنوعة. ينطبق ذلك على التناقض الكلاسيكي بين الطبقة البورجوازية والطبقة العاملة في البلدان الرأسمالية المتطورة، التي تعرضت مكتسباتها على كل صعيد، ولا تزال، لهجوم ضار ومنظم من قبل االبورجوازية الكبرى. كذلك تتعاظم وتيرة النهب المستهدف لثروات ومقدرات وسيادة «البلدان النامية» في القارات الثلاث (آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية).
وتقع في هذا السياق متابعة تجربة البلدان التي واصلت سلطاتها بناء تجربتها الاشتراكية الخاصة بقيادة أحزاب شيوعية، وهي مستمرة ولم تسقط، بل إن بعضها حقق إنجازات غير مسبوقة في ميادين التنمية والإنتاج والتصنيع والتصدير والعلم والمنافسة. إن أول ما ينبغي ملاحظته في تجارب هذه البلدان تشابهها في تدني مستويات تطورها الرأسمالي ورزوحها تحت وطأة الغزو الاستعماري. لهذا كان الطابع العام لانتقالها ذا محتوى ثوري تحرري شامل ومعبر عن المصالح الوطنية العامة، وموجّه ضد العدو المستعمر الخارجي قبل العدو الأداة الداخلية التابع له والمنفذ لسياساته.
لعل من المنطقي الإشارة هنا إلى أن شروط وظروف تخلّف البنية الاقتصادية الرأسمالية في البلدان النامية، وخصوصاً الآسيوية منها، ورسوخ تقاليد الاستبداد وقلة التطلب الديموقراطي النسبي فيها، هو ما وفَّر لأنظمتها الثورية فرصاً أكبر للاستمرار والحفاظ على السلطة وقمع محاولات تغييرها بوسائل وأدوات الضغط السلمي أو العنفي. يمكن، في هذا الصدد، التحدث عن الجانب المشترك الأساسي الذي يجمع تجربة «المسيرة الكبرى» في الصين، وتجربة كاسترو وغيفارا في كوبا، وتجربة «الفيتكونغ» الفيتنامية، وتجربة سلالة كيم «الزوتشية» في كوريا الشمالية… وهي تجارب كانت أداتها أو رافعتها الأساسية حروب تحرير شعبية من أجل الحرية والاستقلال.
لم يكن الأمر على هذا النحو بالنسبة إلى تجربة «كومونة باريس»، مثلاً، التي اتَّسمت بطابع كلاسيكي لصراع طبقي مباشر بين أطراف (محلية) فرنسية بالدرجة الأولى. الثورة الروسية نفسها في مرحلتيها الأولى (1905)، والثانية الكبرى (1917)، كانت قواها الأساسية روسية. التدخل الخارجي حصل، بعد انتصار الثورة، لا قبلها ولا أثناءها.
مع تسَيُّد الإمبريالية الأميركية للعالم بلا منازع، ازدادت عدوانيتها بشكل أشرنا إليه سابقاً. وهي تواصل اليوم هذا النهج الذي بلغ ذروته مع إدارة ترامب في ولايته الأولى 2016-2020، وخصوصاً في ولايته الحالية التي تكاد تطوي نصف سنتها الأولى. ليس ترامب رئيساً بالمصادفة في «البيت الأبيض».
إنه ثمرة مرحلة جديدة من الصراع على الثروات والنفوذ بعد أن أصبحت قواعد المنافسة التقليدية في نطاق العولمة الأميركية نفسها، غير ملبية لاستمرار وتعميق الهيمنة الأميركية على المقدرات الكونية الأساسية في حقول الوصول إلى المواد الأولية واستخدامها والطاقة والتحكم باستخراجها وتسويقها وأسعارها إلى مجالات مفتوحة باستمرار في عالم الاتصالات والمعلومات وغزو الفضاء والذكاء الاصطناعي.
يطل الرئيس الأميركي كل يوم متناولاً كل ملفات أزمات العالم بالتفصيل وكأنه رئيس حكومة الكون! وهو يصدر «القرارات التنفيذية» في نطاق تفرد يهمش ليس فقط حقوق البلدان وينتهك سيادتها، بل أيضاً المؤسسات الدولية وحتى المؤسسات الأميركية نفسها: ودائماً بنفس عنصري واستعلائي وأوامري تتردد أصداؤه في الدول الاستعمارية نمواً للتيارات الفاشية والعنصرية المتطرفة والإرهابية.
في الشرق الأوسط، تمثّل مشروع ترامب في «صفقة القرن» لمصلحة الغاصب الصهيوني. شجَّع وسواه، موجة تطرف فاشي عنصري في الكيان الصهيوني. تقدّم ذلك المشروع الإحلالي الإرهابي خطوات كبرى إلى الأمام عبر محاولة الاستيلاء بالضم والتهجير، على كل فلسطين، والتوسع في كل المنطقة عبر حرب الإبادة واستحضار مشروع «إسرائيل الكبرى» مباشرة، أو تحت عنوان «تغيير خريطة الشرق الأوسط».
أدى ذلك إلى أن تصبح قضية فلسطين (التي سُميت مبدئياً، ودعائياً وليس نضالياً غالباً، «قضية العرب المركزية»)، هي بؤرة الصراع الهائل الملتهب في المنطقة وعليها. أمّا صدى بطولات وتضحيات شعبها المدهشة، من جهة، ووحشية وهمجية الصهاينة وداعميهم، من جهة مقابلة، فيجوب كل الآفاق انتصاراً للعدالة وإدانة للهمجية!
إلى أين يمضي هذا الصراع؟ من هي القوى المنخرطة فيه وما هي أهدافها؟ ما هو مدى تأثيره على مصائر شعوب المنطقة، وما هو موقعه في الصراع الدولي؟ ما هو الموقف منه؟ ذلك هو موضوع المقال القادم.
[وقع، في المقال السابق، خطأ في تاريح انعقاد المؤتمر السادس للحزب الشيوعي اللبناني. الصحيح، مع الاعتذار، أنه عام 1992] * كاتب وسياسي لبناني