
الأقسام الرسمية لـ «كان» السينمائي: أين حضرت فلسطين؟

سليم البيك
من حسن حظ الفلسطينيين، أن المشوار السينمائي لأفلامهم الروائية، وقد افتتحه «عرس الجليل» لميشيل خليفي، بدأ المشوار مع أهمّ المهرجانات السينمائية، الأعلى من بين الثلاثة الكبار، كان وفينيسيا وبرلين، وإن كان في تظاهرة موازية وليس ضمن الاختيار الرسمي. ومن بعده، توالت المشاركات في المهرجانات مع أولوية في العلاقة بين المهرجان الفرنسي والسينما الفلسطينية، بأفلامها الروائية الطويلة تحديداً.
أخصّص، لذلك، مقالتين أتناول فيهما أقسام «كان السينمائي» وحضور الأفلام الفلسطينية فيها.
سيكون للأقسام الموازية للمهرجان الفرنسي مقالة تالية، وذلك كي أحصر هذه المقالة، الطويلة نسبياً، في الاختيارات الرسمية للمهرجان، وأقدّم فيها جانبين: شرحاً للأقسام المختلفة ضمن الاختيارات الرسمية في مهرجان كان السينمائي، والمواقع التي احتلتها الأفلام الفلسطينية والجوائز التي كان لها نصيب منها. لماذا مهرجان كان السينمائي دون غيره؟ لأنه، إضافة إلى استهلال السينما الروائية للفلسطينيين في هذا المهرجان، ما شكّل انفتاحاً معنوياً، ومرجعيةً تاريخية، من قِبل كل من المهرجان تجاه الفلسطينيين، ومن قِبلهم تجاهه، فكان الوجهة الأولى المفضلة لكونه الافتتاح المهرجاناتي العالمي للفلسطينيين ولمكانته. وهو، أصلاً وبحديث سينمائي تام، وجهة سينمائية أولى مفضلة لعموم السينمائيين في العالم، لمكانته العليا سينمائياً.
من بعد المراحل الأولى من السينما الفلسطينية التي بدأت مع المهرجان الفرنسي، امتدت العلاقة إلى اليوم ليكون مهرجان كان، الأكثرَ تقديماً للسينما الروائية الطويلة الفلسطينية إلى العالم، بالمقارنة مع غيره، الثلاثة الكبار، هو وفينيسيا وبرلين، ومن بعدهما لوكارنو وسان سيباستيان وروتردام وتورونتو وغيرها أقل اعتباراً. لكن الحديث أساساً عن المهرجانات الثلاثة الكبرى التي «تقدِّم» الفيلمَ إلى العالم في عرض عالمي أوّل، ليتخذ الفيلمُ طريقَه من بعدها ماراً ما أمكن له في مهرجانات أخرى كالمذكورة أعلاه، التي لا تتطلب بالضرورة عروضاً دولية أولى، وفي غيرها أقل شأناً.
أرتّبُ الأقسام حسب الأهمية، وأقسام هذه المقالة أعلى أهمية من التالية لها، فهذه مخصصة للاختيارات الرسمية للمهرجان، والتالية للتظاهرات الموازية. لذلك، أبدأ من «المسابقة».
لمهرجان كان السينمائي «الاختيار الرسمي»، واختيارات غير رسمية تكون في تظاهرات موازية. «الاختيار الرسمي»، وهو الأعلى شأناً أو هو المهرجان رسمياً وفعلياً. يُقسَّم إلى «المسابقة» و»نظرة ما». هذه «المسابقة»(Compétition) هي الأهم من بين كل المسابقات السينمائية المهرجاناتية في العالم. يصرّ المهرجان على دقّة التسمية، فهي ليست «المسابقة الرسمية»، وإن للتوضيح والتفرقة تُستخدَم الكلمتان معاً في المقالات الصحافية، لكن التصنيف يستلزم الدقة: هنالك «الاختيار الرسمي» وهو يُقسَّم إلى «المسابقة» و»نظرة ما»، لا داعي إذن للقول «مسابقة رسمية». و»المسابقة» هي ساحة التنافس على السعفة الذهبية، وتشمل ما بين 20 و22 فيلماً روائياً طويلاً للتنافس على 7 جوائز هي بالترتيب: السعفة الذهبية، الجائزة الكبرى، جائزة الإخراج، جائزة السيناريو، جائزة لأفضل ممثل ولأفضل ممثلة، وجائزة لجنة التحكيم. ويكمن للّجنة أن تستحدث في دورتها جائزة إضافية كـ»الجائزة الخاصة» و»التنويه الخاص».
الحضور الفلسطيني في «المسابقة» كان محصوراً بالأفلام الثلاثة الأخيرة لإيليا سليمان، «يد إلهية» عام 2002، ونال جائزة لجنة التحكيم وجائزة النقاد الدولية (فيبريسي)، و»الزمن الباقي» عام 2009، و»إن شئت كما في السماء» عام 2019، ونال تنويهاً خاصاً وجائزة النقاد الدولية. غيرها من الأفلام الفلسطينية كانت موزعة على باقي أقسام المهرجان، الرسمية وغير الرسمية، وكان الحضور الفلسطيني بنسبة جيدة في قسم «نظرة ما»، التظاهرة الثانية من حيث الأهمية للتنافس على جوائز المهرجان.
تأسس «نظرة ما» (Un certain regard) عام 1978 لمواجهة الصعود المتسارع لقسم «أسبوعا المخرجين» الموازي (في المقالة التالية أمر على هذا القسم الذي تأسس لمنافسة «المسابقة» في المهرجان). يمكن اختصار القول، اليوم، في أن الأفلام التي لا تجد مكاناً في «المسابقة» تُودَع في أقسام أخرى أهمّها «نظرة ما»، لكن لهذا القسم خصوصيته كذلك. فضمن ما يقارب 20 فيلماً في كل دورة، يكشف القسم عن اهتمامه بالأفلام الأولى لمخرجيها، وهو ما يندر حدوثه ضمن «المسابقة». الأفلام الأولى الممتازة إذن تجد طريقاً مفتوحاً إلى «نظرة ما». كما أن القسم يعطي اعتباراً خاصاً لتجارب سينمائية من بلدان يقلّ إنتاجها السينمائي، ليكون الفيلم وقد تخطى جودة سينمائية بحدّ أدنى، اكتشافاً ثقافياً ضمن القسم. والقسم هذا تنافسي، وله لجنة تحكيم من 5 أفراد تمنح «جائزة نظرة ما»، وغيرها مما يمكن أن تبادر اللجنة إليها مع عدم الإلزام بمنحها ما لم تتوفر لديهم أسباب (الإخراج، السيناريو إلخ)، بخلاف جوائز «المسابقة» اللازم منحها للإخراج والسيناريو وغيرهما، ويمكن أن تخترع اللجنةُ أسماء جوائز غير تقليدية، كان منها «جائزة الصوت الجديد» و»جائزة الشباب».
في «نظرة ما» حضرت تاريخياً 7 أفلام فلسطينية، «نشيد الحجر» لميشيل خليفي عام 1990، وإن كان الفيلم وثائقياً مدعماً بعناصر روائية، لكنني أدرجته هنا لأهميته وخصوصيته. و»حيفا» لرشيد مشهراوي عام 1996. سيغيب الفلسطينيون أكثر من عقد عن هذا القسم قبل أن تعود آن ماري جاسر عام 2008 بفيلمها «ملح هذا البحر». ثم هاني أبو أسعد عام 2013 بفيلمه «عمر»، ونال جائزة لجنة التحكيم. وعام 2016 قدّمت مها حاج في هذا القسم أوّل أفلامها، «أمور شخصية». ثم عادت عام 2022 بالثاني وهو «حمّى البحر المتوسّط»، ونال جائزة أفضل سيناريو، وهو أفضل المشاركات الفلسطينية ضمن هذا القسم حتى اليوم. أما آخر المشاركات فكان هذا العام، 2025، بفيلم الأخوين طرزان وعرب ناصر، «كان ياما كان في غزة»، ونال جائزة أفضل إخراج. أضيف إلى المذكور أعلاه فيلم «7 أيام في هافانا»، عام 2012، وفيه أفلام قصيرة لـ7 مخرجين من العالم من بينهم كان إيليا سليمان بفيلمه «يوميات مبتدئ».
من بعد «المسابقة» و»نظرة ما»، لا نزال ضمن «الاختيار الرسمي» لكن في تظاهرات غير تنافسية، ففي المهرجان قسم لا جوائز فيه هو «خارج المسابقة» (Hors compétition). لا حضور فلسطيني فيه سوى فيلم «باب الشمس» للمصري يسري نصرالله عام 2004، وإن كان القسم معنياً أساساً بأفلام البلوكبستر الهوليوودية وما يرافقها من نجوم للسجادة الحمراء، وكذلك الأفلام التجارية الفرنسية، المسماة في فرنسا بأفلام «الجمهور العريض»، وهي ليست أفلام «مؤلف» (أوتور) يمكن أن تجد لها مقعداً للتنافُس على السعفة. الغاية هنا هي أن يكسب كل من المهرجان والأفلام الزخمَ الإعلامي، الذي يمكن أن يقدمه أيٌّ منهما للآخر، تحديداً المهرجان للفيلم.
عام 2021، استحدث المهرجان ضمن «الاختيار الرسمي» قسماً هو «العرض الأول لكان» (Cannes Première)، ويمكن ترجمته بـ»عرض كان الأول»، وللمناسبة، الترجمات لأسماء الأقسام يمكن أن تختلف، فيمكن القول «قسم» أو «تظاهرة»، و»مسابقة»، حيث تكون جوائز، ويمكن القول «مسابقة» أو «منافسة»، فلا تسمية رسمية بالعربية ثابتة، كما أن هنالك من يقول «نظرة معينة» بدل «نظرة ما».
في كل الأحوال، استُحدث هذا القسم لاستيعاب الأفلام التي اختارها المهرجان للدورة الملغية عام 2020 بسبب الجائحة الصحية آنذاك. هو أحدث الأقسام للمهرجان، رسمي وغير تنافسي، كان لسبب طارئ لكنه تثبّت واستمر إلى اليوم. يُقال إنه بقي ليكون مَخرجاً لائقاً من تري فريمو، المفوَّض العام للمهرجان، لمواساة النسبة الأكبر من المنتجين والموزعين الفرنسيين ممن لم تجد أفلامهم مكاناً في «المسابقة» على السعفة الذهبية، التي يتزاحم فيها بعض من أفضل الإنتاجات السينمائية في العالم. ولهذا القسم ما بين 6 و8 أفلام تكون فرنسية، بالتالي لا أفلام فلسطينية أو دولية فيه. كما يُقال إن القسم لا ينحصر بلباقة تري فريمون في رفض أفلام فرنسية ضمن المسابقة، بل كذلك يمتد إلى «المنع اللبق» للمهرجان الأكثر منافسةً وهو فينيسيا السينمائي، من الاستحواذ على تلك الأفلام في دورته اللاحقة لمهرجان كان في أيار/مايو، أفلام قد تتردّد في هجران الريفييرا جنوبي فرنسا للتوجه إلى جزيرة الليدو شمالي إيطاليا، في المونسترا المنعقد نهايات آب/أغسطس، فتنافس على أسده الذهبي.
آخر الاختيارات الرسمية هي «العروض الخاصة» (Séances spéciales) و»عروض منتصف الليل» (Séances de minuit). هما إضافة إلى قسم «خارج المسابقة». قسم «العروض الخاصة» يحتضن الأفلام الوثائقية أكثر من غيره، إضافة إلى الأفلام غير القابلة للتصنيف، أو العابرة للتصنيفات. أما «عروض منتصف الليل» فهي لأفلام تُعرض ليلاً في صالة لوميير الكبرى، المركزية للمهرجان، وليست محدّدة بأفلام بعينها، لكنها أقرب لعروض أفلام «الجانْر» من الرعب إلى الأكشن وغيرهما، وغالباً، لسبب ما، تكون أفلاماً من شرق آسيا. ولم يشهد أي من القسمين عروضاً فلسطينية.
في المقالة التالية أتناول الأقسام الموازية في مهرجان كان السينمائي، خارج الاختيار الرسمي، وهي «أسبوع النقد» و»أسبوعا السينمائيين» و»أسيد» و»كلاسيكيات كان». في أول اثنين مشاركات فلسطينية لكنها أقل من مجمل تلك المشاركة في الاختيارات الرسمية، أفلام سليمان الثلاثة في «المسابقة»، والأفلام السبعة لمخرجين ومخرجات في «نظرة ما»، و»باب الشمس».
ننهي هنا بالقول إن 11 فيلماً فلسطينياً شارك في مهرجان كان السينمائي، ضمن الاختيارات الرسمية، وذلك بدءاً من زمن قريب، 1987، حين أدخل أول الأفلام الروائية الطويلة اسم فلسطين إلى هذا المهرجان رسمياً، الأعلى عالمياً.
كاتب فلسطيني/ سوري