«هرمجدون المؤجّلة»: قراءة في ديناميات العقيدة الأميركية تجاه إيران

«هرمجدون المؤجّلة»: قراءة في ديناميات العقيدة الأميركية تجاه إيران
حين تختلط السياسات بالعقائد، وتصبح المواقف الدولية انعكاساً لتصوّرات لاهوتية، يغدو المشهد الجيوسياسي أكثر تشوّهاً وتعقيداً. لعلّ من أبرز النماذج على هذا التداخل، الخطاب الأميركي تجاه إيران، الذي تحوّل على مدى العقود الأخيرة من صراع مصالح تقليدي إلى مواجهة تستبطن أبعاداً دينية ونبوئية.
ولعلّ خير تجلٍّ لهذا التحوّل ما قاله ماركو روبيو، وزير الخارجية الأميركي، وأحد أبرز وجوه التيار الجمهوري في الولايات المتحدة، في أحد تصريحاته التي كثيراً ما يُعاد تداولها بين صنّاع القرار: «لا يمكن الحوار مع هؤلاء… نحن نفرض العقوبات على إيران لأنهم يعتقدون أنّ المهدي سيقود الحرب النهائية ضد الغرب وسيسيطر على العالم. هذه ليست سياسة. هذا هو آخر الزمان.».
كلمات روبيو هذه لا تمثّل رأياً عابراً، بل تعبّر عن تحوّل تدريجي وعميق في كيفية قراءة إيران من قبل مراكز القرار في واشنطن، وخاصة مع تنامي تأثير التيارات الدينية على السياسة الخارجية الأميركية، حتى لو افترضنا حسن النيّة في قراءة هذا الخطاب، فيما قد يكون طفواً على السطح لما هو معمول به منذ عشرات السنوات في أروقة وكواليس القرار الأميركي تجاه إيران وفلسطين والمنطقة ككل.
من العقوبات إلى العدوان: تصعيد يتجاوز السياسة
خطاب ماركو روبيو لا يمكن فصله عن خطاب التشدّد الأميركي الذي بات يطفو إلى السطح مع وصول المواجهة إلى التّماس المباشر بين الأطراف. ففي العام 2015، كان من بين 47 سيناتوراً جمهورياً وجّهوا رسالة مباشرة إلى قادة إيران لتحذيرهم من تجاوز الكونغرس في أي اتفاق نووي. وفي تشرين الأول 2016، كتب مقالاً في «سي أن أن» وصف فيه الاتفاق النووي بأنه «كارثة واضحة» في تطابق تام مع وجهة نظر اللوبي الصهيوني ومن خلفهم الكيان آنذاك.
نتائج هذا التصعيد وتسييله كانت مجرد مسألة وقت بالنسبة لهذا التيار المتشدّد. فالتصعيد الأخير في حزيران 2025، بشنّ إسرائيل، وبدعم أميركي، هجوماً عسكرياً استمر 12 يوماً، استهدف منشآت إيرانية وقادة كباراً – والذي كاد أن يدفع المنطقة إلى حافة حرب إقليمية واسعة – لم يكن مجرد عمل عسكري تقليدي، بل جزءاً من مسار أيديولوجي بدأ يتشكّل وجهه العملي داخل القرار الأميركي.
عقوبات على العقيدة
أدبيات هذا التيار بدأت تخرج من الإطار المعتاد للنقد السياسي لتدخل ميدان قراءة المعتقد الديني. فروبيو وغيره لم يقولوا إنّ إيران تشكّل خطراً عسكرياً أو اقتصادياً فحسب، بل تأكّدوا أنّ العقوبات والأعمال العسكرية خيار قائم ضد إيران لأنها «تؤمن بظهور الإمام المهدي» وما يعنيه ذلك من نبوءات آخر الزمان لدى الطرفين من زوال الدول والشعوب.
لا يمكن تناول هذا الطرح السياسي-الديني دون الإشارة إلى منظومة الفكر الإنجيلي الذي يمثّل قوة هائلة في السياسة الأميركية، ويؤمن أتباعه بـ«هرمجدون»، أي المعركة النهائية التي تسبق عودة المسيح، وهي نبوءة دينية يتقاطع مضمونها مع دعم مطلق لإسرائيل كمقدمة لـ«الخلاص» الموعود. وهذا ما أكّد عليه المؤرّخ الأميركي بول بويم في كتابه «الإنجيليون والسياسة الأميركية الخارجية»: «العديد من صناع القرار يرون في الشرق الأوسط مختبراً للنبوءات، لا ميداناً للسياسة الواقعية».
الصهيونية والإنجيليون: تحالف نبوئي قبل أن يكون سياسياً
لا يمكن فهم هذا التزاوج بين العقيدة والسياسة دون العودة إلى الجذور الفكرية لما يُعرف اليوم بـ«التحالف الصهيوني–الإنجيلي». وهو تحالف لم يولد في البيت الأبيض، بل بدأ يتبلور في إنكلترا القرن التاسع عشر، حين بدأ تيار «الصهيونية المسيحية» يطالب بعودة اليهود إلى فلسطين كشرط لظهور المسيح.
يقول لورنس ديفيدسون، المؤرّخ الأميركي، في كتابه «السياسة الخارجية الأميركية والصهيونية المسيحية»: «منذ منتصف القرن التاسع عشر، كان هناك اعتقاد سائد لدى بعض التيارات الإنجيلية بأنّ تأسيس دولة يهودية في فلسطين هو الخطوة التي تسبق نهاية العالم وعودة المسيح الثانية».
الخطير هنا، هو في كيفية تلقّي هذا الخطاب من قِبل الغرب. إذ يتمّ عزله عن سياقه الاجتماعي والتاريخي – أي رفض الاحتلال والاستعمار وتوسّع الهيمنة وحق الشعوب في رفض ذلك – وتوظيفه كدليل على «تهديد ميتافيزيقي»
وقد تجذّر هذا الاعتقاد لاحقاً في الولايات المتحدة، وظهر بوضوح في خطاب ثيودور هرتزل نفسه، مؤسّس الصهيونية الحديثة، حين قال في رسالة إلى أحد القساوسة الإنكليز عام 1896:
«الصهيونية ستنجح، لأنها تملك في صفّها إنجيليّي إنجلترا وأميركا».
ومع نشوء الكيان الصهيوني عام 1948، رأى الإنجيليون أنّ «نبوءتهم» بدأت تتحقّق، فازداد الدعم العقائدي لإسرائيل، حتى أصبح إحدى ركائز السياسة الخارجية الأميركية، خاصة في عهد رونالد ريغان وامتداده الحديث مع دونالد ترامب، الذي أعلن القدس عاصمة لإسرائيل بـ«قناعة لاهوتية» بحسب ما نقله عنه المبشّر الشهير جون هاغي.
هذا التحالف المقدّس بين السياسة واللاهوت جعل من المنطقة ساحة لنزاع ديني مقنّع، يتموضع فيه الكيان الإسرائيلي كـ«مسرح النبوءة»، وتتحوّل فيه أي قوة رافضة لمشروعه، كإيران، إلى «عقبة في وجه الخلاص».
«إسرائيل الكبرى» من اللاهوت إلى الخرائط
ما يجري في إيران لا يمكن فصله عمّا تشهده غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا وبقية دول المنطقة. فهذا العنف اللامتناهي منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، بقتل أكثر من 56 ألف فلسطيني في غزة وفق إحصائيات وزارة الصحة الفلسطينية والأمم المتحدة، في حرب إبادة لا تتوقّف، وتوحّش التوسّعات الاستيطانية في الضفة، وتكرّر التهديدات بهدم المسجد الأقصى، والعدوان المتواصل على لبنان وسوريا واليمن والعراق والرسائل المبطّنة تجاه الأردن ومصر والسعودية وغيرها من دول المنطقة التي تقع ضمن مشروع عقائدي صهيوني لم تعد تخفيه صقور الصهيونية عن الإعلام. فتصريحات متكرّرة لوزراء في حكومة نتنياهو، كبتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، تشير إلى رغبة صريحة في تنفيذ مشروع «إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات»، وهو تصوّر ديني قبل أن يكون سياسياً يمتدّ على كل جغرافيا المنطقة ويسكن البيت الأبيض اليوم عرّابوه ومعتنقوه من صقور إدارة ترامب.
من اللاهوت إلى اللوبي: حين تتقاطع النبوءة مع المصلحة
لا يمكن فصل العقيدة عن التأثير المؤسّساتي والمادي في السياسة الأميركية. إذ تؤدّي جماعات الضغط دوراً جوهرياً في تحويل النبوءات إلى قرارات تنفيذية. فهذا التضافر بين النفوذ الإنجيلي–الصهيوني داخل دوائر القرار، الذي يحوِّل النبوءات الدينية إلى سياسات ملموسة عبر جماعات الضغط، يتقاطع مع تحالف غير معلن مع المجمّع الصناعي العسكري. فـ«مسيحيون متحدّون من أجل إسرائيل» (CUFI) بقيادة القس جون هاغي، الذي يموِّل حملاتٍ سياسيةً تحت شعار «تحقيق نبوءة هرمجدون»، والـ«آيباك» تحوِّل ذلك إلى قرارات في الكونغرس، في حين يُغذّي المجمّع الصناعي العسكري سياسات التصعيد الدائم في المنطقة.
وقد ظهر هذا جليّاً عندما رفعت شركة «لوكهيد مارتن» – إحدى أكبر شركات السلاح – أرباحها بنسبة 23% بعد العدوان الأخير (2025) على إيران في تحويلٍ للصراع الديني إلى سلسلة من المصالح المادية العميقة: إذ تُستخدم الخطابات الدينية كغلاف أيديولوجي لتبرير تعقيدات صناعة السلاح، ويمنح السلاحُ الأيديولوجيا قوة التنفيذ.
إيران: عقيدة مقاومة أم خطر نبوئي؟
في المقلب الآخر، لا يمكن إنكار أنّ الخطاب الإيراني كذلك يستند بدوره إلى عناصر دينية واضحة، سواء في أدبيات «التمهيد للظهور» أو في تأكيده على مواجهة الظالمين انطلاقاً من أيديولوجيا عاشورائية لا تخفيها القيادة الإيرانية. تُستحضر مفاهيم مثل «التمهيد للظهور» و«نصرة المستضعفين»، في العديد من الخطب السياسية والبرامج التعبوية.
لا بل حتى في الدستور الإيراني نفسه تنصّ المادة الثالثة على أنّ الدولة تعمل لتحقيق: «تمهيد الأرضية لبسط العدالة، واستئصال الفقر والتمييز، وتحقيق الاستقلال السياسي والثقافي والاقتصادي، ونصرة المستضعفين».
كما تؤكّد المادتان 152 و154 على نصرة المستضعفين، وتُعلن ديباجة الدستور بوضوح: «إنّ هذا الدستور يمهّد الأرضية لظهور حكومة المستضعفين العالمية التي سيكون الإمام المهدي المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف قائدها، ويعدّ الجمهورية الإسلامية تمهيداً لذلك الظهور المبارك».
بالتالي، تأطير الصراع مع الغرب له بعدٌ عقائدي، ولا يقتصر على مواجهة مصالح فحسب، بل كمواجهة بين «الحق والباطل» وبناءً على ذلك تتشكّل العقيدة الأمنيّة والعسكرية للجمهورية الإسلامية على أسس تُبرز البعد العقائدي بوضوح. فالحرس الثوري، يُقدَّم باعتباره حامي الثورة وممهّداً لظهور الإمام المهدي، وفق سرديات متكرّرة في أدبياته. كما تُقدَّم المقاومة في لبنان، واليمن، والعراق، بوصفها امتداداً لمحور مقاومة عالمي ذي بُعد رسالي.
لكن الخطير هنا، هو في كيفية تلقّي هذا الخطاب من قِبل الغرب. إذ يتمّ عزله عن سياقه الاجتماعي والتاريخي – أي رفض الاحتلال والاستعمار وتوسّع الهيمنة وحق الشعوب في رفض ذلك – وتوظيفه كدليل على «تهديد ميتافيزيقي»، كما وصفه بعض المحلّلين الأميركيين، ما يبرّر – من وجهة نظرهم – سياسة الردع المسبق وشيطنة إيران.
يقول هنري سيغمان، المدير السابق للمجلس اليهودي الأميركي: «ما يدفع إسرائيل وأصدقاؤها في واشنطن إلى التصعيد مع إيران ليس فقط الخوف من نووي محتمل، بل من نموذج ديني يناقض الرواية التوراتية للهيمنة».
هذا النموذج الذي تقدمه إيران لا يطرح تحدياً عسكرياً فحسب، بل يتحدى أيضاً أسس الهيمنة الرمزية التي استندت إليها إسرائيل تاريخياً، باعتبارها ممثّلة «الحقيقة الإلهية» في الأرض الموعودة. ومن هنا، يبدو الصراع وكأنه يدور بين تأويلين متعاكسين للعالم: تأويلٌ يرى الدينَ رافعةً للتحرّر، وآخر يختزله إلى ذريعة للإقصاء والسيطرة.
خاتمة: هل نحن أمام صراع نبوءات؟
السؤال الذي يُطرح اليوم وغداً: هل ما نراه في التصعيد الأميركي تجاه إيران هو صراع على النفوذ والطاقة؟ أم أنّ هناك خيطاً خفياً يقودنا نحو صدام بين نبوءتين دينيّتين مختلفتين؟
حين يقول روبيو إنّ هذا «آخر الزمان»، لتبرير العقوبات وقصف دولة ذات سيادة لا تملك سلاحاً نووياً – كما اعترف رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية نفسه – لا يكون السبب الأفعال بل «المعتقد». وهذا يجعلنا أمام تحوّل نوعي في طبيعة العداء: من صراع مصالح إلى حرب عقائدية مغلّفة بالديبلوماسية.
وما لم تُواجَه هذه النزعة المتطرّفة داخل القرار الغربي، فإنّ المنطقة بأكملها مرشحة للانفجار، ليس بفعل النفط أو الأسلحة، بل بسبب روايات دينية تُقرأ وكأنها سيناريو سياسي. فالقراءة الدينية الصهيونية تشمل ما هو أوسع من هذه الجغرافيا للوصول إلى هدفها النهائي بتحقّق نبوءتها العقائدية. وبالتالي، معركة القرن في الشرق الأوسط لن تُخاض على الأرض وحدها، بل في فضاء اللاهوت وأروقة النبوءات.
وربما لن تبدأ الحرب القادمة بسبب نفط أو مفاعل، بل بسبب تفسير نبوءة.
وهذا ما يُدخل العالم في لحظة مصيرية: إذ تُحسم المعارك الكبرى ليس في ساحات القتال، بل في مختبرات تأويل النصوص المقدسة.
* صحافي لبناني مقيم في إيران