الذكاء الاصطناعي وحقوق النشر: معركة الإبداع في زمن الخوارزميات!

الذكاء الاصطناعي وحقوق النشر: معركة الإبداع في زمن الخوارزميات!
الذكاء الاصطناعي يهدد مفهوم حقوق النشر كما نعرفه… فهل نحن أمام نهاية الإبداع البشري أم بداية شراكة جديدة بين الإنسان والآلة؟
في زمن ليس ببعيد، كانت حقوق النشر تُعد حصن الأمان للمبدعين، حاجزاً يحول دون استغلال أعمالهم من قبل الآخرين من دون إذن. غير أن المشهد تبدّل مع صعود الذكاء الاصطناعي التوليدي، الذي لا يبدع من فراغ، بل يقوم على تحليل وتعلّم ما سبق أن أبدعه البشر. ومع هذا التغير، طُرحت تساؤلات جوهرية: من يملك الإبداع؟ ومن يستحق الربح؟ وهل قوانين حقوق النشر التقليدية قادرة على مواكبة هذا الواقع الجديد؟
بين الإبداع البشري والآلة: توازن مختل
يدخل الذكاء الاصطناعي التوليدي بقوة في كل مجالات الإنتاج الثقافي والمعرفي، من النصوص والصور إلى الموسيقى والفيديو. ومع أنه يُعزز الإنتاجية ويوفر أدوات غير مسبوقة للمبدعين، إلا أن الأساس الذي يُبنى عليه هذا الذكاء، أي الأعمال الإبداعية البشرية، غالباً ما يُستخدم من دون إذن أو تعويض.
تكمن المشكلة في أن هذه الخوارزميات تُدرّب على مليارات من النصوص والمواد المحمية بحقوق النشر، من دون الرجوع إلى أصحابها. وهذا ما دفع عدداً من الكُتّاب والفنانين إلى اعتبار ذلك شكلاً من أشكال «الاستغلال الصامت»، حيث تُستخدم أعمالهم لصناعة نماذج تنافسهم في السوق ذاته.
الاستخدام العادل أم انتهاك صامت؟
تعتمد الشركات المطوّرة للنماذج، مثل «أوبن إيه آي» و«أنثروبيك»، على مبدأ «الاستخدام العادل» كغطاء قانوني. فهي تدّعي أن استخدام المحتوى المحمي يتم لأغراض تعليمية وتحويلية لا لإعادة توزيعه أو تحقيق أرباح مباشرة منه. لكن هذه الحجة تخضع لتشكيك واسع.
في قضية شهيرة رفعتها صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية ضد «أوبن إيه آي»، رفض القاضي إسقاط الدعوى، ما يشير إلى أن المسألة قد تذهب إلى محاكمة كاملة تضع سابقة قانونية جديدة. وفي حال خسرت الشركات دفاع «الاستخدام العادل»، فإن جزءاً كبيراً من صناعة الذكاء الاصطناعي التوليدي سيصبح مهدداً قانونياً.
-
يدخل الذكاء الاصطناعي التوليدي بقوة في كل مجالات الإنتاج الثقافي والمعرفي
أزمة السوق الرمادية
حتى إن لم يُثبت وجود نسخ مباشر، تبقى المخاوف قائمة حول المنافسة غير العادلة. إذ يمكن لنموذج ذكي أن يُنتج كتاباً أو صورة أو مقطع فيديو قريباً جداً من عمل بشري قائم، ما يؤثر سلباً في مبيعاته. فهل يجب أن تمتد حماية حقوق النشر لتشمل «السوق المحتملة»؟ أي الإبداع الذي لم يُنتج بعد، لكنه معرض للتهديد؟
الإجابة عن هذا السؤال ليست واضحة بعد، لكن من المؤكد أن المسألة تجاوزت النصوص والصور، لتصل إلى مفاهيم أكثر تعقيداً كـ«الأسلوب الشخصي» و«البصمة الفنية»، التي يصعب حمايتها قانونياً في الوقت الراهن.
«الأسلوب ليس مباحاً»: نحو حماية للهوية الإبداعية
التهديد اليوم لا يقتصر على نسخ العمل، بل يتعدّاه إلى استنساخ الأسلوب الفني أو الأدبي لشخص حيّ. هذا ما دفع بعض النقابات، مثل نقابة المؤلفين الأميركية، إلى المطالبة بقانون اتحادي يمنح المبدع الحق في رفض أو قبول استخدام أسلوبه في توليد محتوى بالذكاء الاصطناعي.
ورغم أن بعض الشركات، مثل «أوبن إيه آي»، بدأت بتطبيق آليات لمنع محاكاة أساليب معينة، إلا أن هذه الآليات ما تزال محدودة وتحتوي على ثغرات. فعلى سبيل المثال، يمكن للمستخدم أن يطلب إنشاء صورة «بأسلوب أستوديو جيبلي» من دون ذكر اسم مخرجه الشهير هاياو ميازاكي، ما يتيح التحايل على المنع.
الشفافية: حل مؤجل أم عبء بيروقراطي؟
في محاولة لضبط استخدام الأعمال المحمية، طُرحت مشاريع قوانين في الولايات المتحدة تلزم الشركات بالإفصاح عن البيانات التي استخدمتها في تدريب نماذجها. غير أن هذه التشريعات تواجه اعتراضات، أبرزها أنها تفترض مسبقاً أن هذا الاستخدام غير عادل، وهو أمر لم يُبتّ فيه بعد قضائياً.
وعليه، فإن هذه القوانين قد تتحول إلى عبء إداري لا طائل منه، خصوصاً إذا اعتبرت المحاكم أن التدريب يدخل ضمن الاستخدام العادل. وفي المقابل، يقترح البعض حلولاً وسطى، مثل الترخيص الإلزامي، أو خيار الانسحاب الطوعي من قواعد بيانات التدريب.
الذكاء الاصطناعي… ومَن يملك حقوقه؟
إحدى القضايا المحورية الأخرى تتعلق بحقوق النشر للمحتوى الذي تُنتجه النماذج الذكية. فقد رفض مكتب حقوق النشر الأميركي تسجيل أعمال أنشأتها أنظمة مثل Creativity Machine لأنها تفتقر إلى المؤلف البشري.
وهذا الموقف القانوني يضع الأعمال المولّدة بالكامل عبر الذكاء الاصطناعي ضمن «الملكية العامة»، ما يجعلها عرضة للنسخ المجاني. وهو ما يقلل الحافز لدى الشركات والمبدعين لاستخدام هذه التكنولوجيا، في حال لم تتوافر حماية قانونية كافية.
مع ذلك، ثمة مقترحات لإعادة تعريف المؤلف كمستخدم بشري يوجه النموذج ويُضفي على العمل قيمة إبداعية. وبدأت بعض الدول، مثل الصين، بالاعتراف بهذا النوع من «الإبداع المشترك» بين الإنسان والآلة، ومنحه حماية قانونية.
بين الإنسان والآلة: شراكة أم منافسة؟
أحد التأثيرات غير المتوقعة لغياب حماية حقوق النشر للأعمال المولّدة بالذكاء الاصطناعي، هو حماية المبدعين البشريين من الاستبدال. فالشركات لن تكون قادرة على الاستفادة الكاملة من هذه النماذج ما لم تضمن حماية قانونية للمخرجات.
غير أن هذه «الطمأنينة المؤقتة» قد لا تدوم طويلاً. إذ تشير تجارب مثل إصدار صحيفة Il Foglio الإيطالية لعدد مكتوب جزئياً بالذكاء الاصطناعي إلى أن المستقبل يتجه نحو «العمل الهجين»، حيث يتعاون الإنسان والآلة لإنتاج محتوى إبداعي.
وقد يصبح استخدام الذكاء الاصطناعي ميزة تنافسية حاسمة، كما حدث في مجالات الطب والهندسة. لكن يبقى التحدي في إيجاد صيغة قانونية تضمن عدالة التوزيع، وحماية الحقوق، من دون كبح الابتكار.
معركة لم تُحسم بعد
بينما تخوض التشريعات معركة بطيئة لمواكبة التحول، تظل الأسئلة الأساسية مطروحة: كيف نحمي المبدع من الاستنساخ؟ من يملك الحق في السوق الإبداعي الجديد؟ وهل يصبح الذكاء الاصطناعي شريكاً في الإبداع أم خصماً غير مرئي؟
الإجابة تكمن في التوازن، لا في المنع. فالعالم العربي، الذي بدأ اليوم في صياغة مقارباته الخاصة لهذه القضايا، بحاجة إلى تشريعات مرنة تستوعب التكنولوجيا وتحمي الهوية الثقافية، من دون أن تُعيق التقدم.
فالإبداع لا ينتمي إلى الآلة ولا الإنسان وحده، بل إلى التفاعل بين الاثنين. وكل ما نحتاجه هو إطار قانوني وأخلاقي يرعى هذا التفاعل بإنصاف.