“إنسانية إسرائيلية”: من الإبادة والتجويع حتى معسكر الترانسفير

“إنسانية إسرائيلية”: من الإبادة والتجويع حتى معسكر الترانسفير
بلال ضاهر
إذا كانت هذه المخططات الإسرائيلية، استئناف الحرب وإقامة معسكر لتجميع الغزيين على أنقاض رفح تمهيدًا للترانسفير، فعلى ماذا تفاوض حماس في الدوحة، وما هو دور الوسطاء في هذه المفاوضات؟ هل يسعى نتنياهو إلى إحباط الاتفاق؟
لم تقدم إسرائيل في تاريخها كله أي شيء إنساني للفلسطينيين. وهي مارست بحقهم المجازر والتهجير والتطهير العرقي والقمع والعنصرية. وإسرائيل، التي تدعي أنها جزء من العالم الغربي، هي الدولة الوحيدة في هذا العالم التي تنتهك حقوق الإنسان الفلسطيني، بشكل منهجي، ولذلك توصف ممارساتها ضد الفلسطينيين بأنها تفرقة عنصرية، أبارتهايد.
نظام الأبارتهايد هذا، مارس التفرقة العنصرية، بين النكبة والنكسة، ضد الفلسطينيين الذين بقوا في وطنهم، وضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، بعد احتلالهما، من خلال نظام الحكم العسكري. وعلى إثر خبرة إسرائيل، الطويلة والمثبتة، في ممارسة الأبارتهايد والحكم العسكري، فقد حاولت تطويرهما من خلال إضفاء صفات “اعتدال” و”إنسانية” على نفسها.
فبعد اتفاقيات أوسلو، استخدمت إسرائيل عبارة “بادرة نية حسنة” تجاه الفلسطينيين والسلطة الفلسطينية، في حالات لا تمس الأبارتهايد والحكم العسكري بأي شكل من الأشكال، مثل أن تسمح لمسؤول فلسطيني بالسفر إلى الخارج، أو أن ترفع الحصار عن منطقة أو إدخال نوع من البضائع كانت تمنع دخولها.
وخلال الحرب على غزة التي تمارس فيها إسرائيل الإبادة بشكل غير مسبوق في العالم الغربي الذي تزعم انتماءها له، في التاريخ الحديث، باتت تستخدم عبارة “إنسانية”، مثل “مساعدات إنسانية”. لكن هذه ليست كذلك، لأنها مجرد مواد غذائية أساسية وبسيطة، ولا تشبع الجياع في قطاع غزة، وتتبرع بها جهات دولية مختلفة. وإذا كانت هذه المواد الغذائية منتجات إسرائيلية، فإن شركات إسرائيلية تحقق أرباحًا مالية من بيعها. هذه مواد إغاثة مقدمة لشعب محاصر بشكل محكم ويتعرض لتجويع منهجي، ولا يمكنه استيراد حبة قمح أو زجاجة ماء.
وفي مجال “الإنسانية الإسرائيلية” المفقودة، تخطط إسرائيل أيضًا لإقامة معسكر خيام كبير جدًا على أنقاض مدينة رفح التي دمرتها بالكامل، بهدف تجميع مئات آلاف الغزيين فيه، وتصفها بـ”المدينة الإنسانية”. وحسب مخطط إسرائيل، فإن من يدخل إلى هذا المعسكر سيحصل على الطعام وربما على الدواء أيضا، وهذه منتجات نادرة في القطاع، لكن لن يُسمح له بمغادرة المعسكر والعودة إلى أي مكان في القطاع. ومن يريد المغادرة، يُسمح له بالخروج من القطاع، إلى مصر مثلًا أو أي دولة أخرى. أي أن هذا المعسكر هو محطة وحسب باتجاه طرد الفلسطينيين الغزيين، الترانسفير، إلى خارج فلسطين، علمًا أن قسمًا كبيرًا منهم هم من ضحايا الترانسفير الذي نفذته إسرائيل إبان النكبة.
وتعتزم إسرائيل تنفيذ هذا المخطط من خلال استئناف الحرب على غزة، في حال التوصل إلى اتفاق مع حماس حول وقف إطلاق نار لمدة 60 يومًا وتبادل أسرى جزئي، تجري حاليًا شبه مفاوضات بشأنه في الدوحة. لكن إذا كانت هذه هي المخططات الإسرائيلية، استئناف الحرب وإقامة معسكر تمهيدًا للترانسفير، وتصرح إسرائيل بذلك علنا، فعلى ماذا تفاوض حماس، وما هو دور الوسطاء في هذه المفاوضات؟ ليس مستبعدًا أن نتنياهو يسعى لإحباط إمكانية التوصل إلى اتفاق هدنة وتبادل أسرى.
خطط نتنياهو وحسابات الجيش
أوعز رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، للجيش بإقامة المعسكر على أنقاض رفح، في نهاية الأسبوع الماضي، وقبل سفره إلى واشنطن من أجل لقاء الرئيس الأميركي، دونالد ترامب. والإثنين الماضي، صرح وزير الأمن، يسرائيل كاتس، بأن الهدف هو تجميع 600 ألف فلسطيني في البداية في هذا المعسكر، ولن يسمح لهم بالخروج منه، وأن العمل على إقامته سيجري خلال فترة وقف إطلاق النار لستين يوما.
وعبر الجيش الإسرائيلي عن تحفظه من خطة إقامة معسكر الترانسفير، وأنه لن يتمكن من تنفيذها في حال التوصل إلى هدنة مؤقتة، لأنه إذ شمل الاتفاق انسحاب القوات الإسرائيلية من “محور موراغ” الذي يقسم رفح، فإنه لن يتمكن من منع دخول مقاتلي حماس إلى المنطقة التي تقضي الخطة بإقامة المعسكر فيها. وحذرت النيابة العامة العسكرية من أنه ستكون لخطة معسكر الترانسفير عواقب بموجب القانون الدولي، لكن إذا قرر المستوى السياسي إخراج هذه الخطة إلى حيز التنفيذ، فإن على الجيش إجراء تجربة أولية تشمل تجميع 50 ألف فلسطيني في المعسكر، بحسب صحيفة “هآرتس”. ويقول جهاز الأمن الإسرائيلي إن إدارة ترامب تراجعت عن خطة “الهجرة الطوعية” للغزيين، وأنه خلافًا لمزاعم نتنياهو، لم توافق أي دولة على استقبال مهجرين من قطاع غزة.

قضى نتنياهو الأسبوع الحالي في واشنطن والتقى مرتين مع ترامب. وتباحثا حول الحرب على غزة وحول شن هجوم آخر ضد إيران. ويصرح ترامب بأنه يريد إنهاء الحرب على غزة، ونتنياهو يقول إن الحرب ستستمر إلى حين تحقيق هدفيها: إعادة جميع الأسرى الإسرائيليين والقضاء على حماس. وبإمكان نتنياهو أن يعيد جميع الأسرى باتفاق، لكن حماس تشترط ذلك بإنهاء الحرب. ويعترف الجيش الإسرائيلي بأنه لا يمكن تحقيق كلا الهدفين وأنه يوجد “تصادم” بينهما، ودعا إلى إعادة جميع الأسرى أولا، ثم مواصلة الحرب، بحسب إذاعة الجيش الإسرائيلي.
ورغم أن الجيش، وخاصة قوات الاحتياط، هو جزء من المجتمع الإسرائيلي وأجوائه، إلا أنه يخضع لإمرة الحكومة، ولذلك هو يعبر عن مواقفه، خصوصا في حال تعارضت مع مواقف الحكومة، من خلال تسريبها إلى وسائل الإعلام، وللمحللين العسكريين بالأساس، الذين يقولون ويكررون أنه من الصعب تحقيق هدف إسرائيل بالقضاء على حماس.
وأفادت وكالة رويترز نقلًا عن دبلوماسيين، بأن ترامب ونتنياهو اختلفا، خلال لقائهما ليل الإثنين – الثلاثاء، في وجهات النظر حول أهدافهما النهائية في إيران وغزة والشرق الأوسط عمومًا. ويبدو أن هذا الاختلاف دفع مبعوث ترامب، ستيف ويتكوف، إلى تأجيل سفره إلى قطر والانضمام إلى المحادثات الجارية في الدوحة حول غزة.
فقد سعى نتنياهو إلى الحصول على تعهد أميركي واضح يمكنه من استئناف الحرب بعد الهدنة الجاري التفاوض حولها في الدوحة حاليا، بادعاء إرضاء الوزيرين المعارضين لإنهاء الحرب، بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير، ومنعهما من إسقاط الحكومة. وبحسب “هآرتس”، فإن ترامب تعهد لنتنياهو بذلك شفهيا، لكن نتنياهو يريد من ترامب تعهدًا خطيًا.
لكن لا يبدو أن نتنياهو فوجئ أثناء اللقاء بهذا الخلاف وبمواقف ترامب. وعلى الأرجح أن نتنياهو سارع إلى لقاء ترامب، رغم علمه بأن مواقفهما مختلفة، بل ومتناقضة أيضا، بهدف التهرب من جلسات محاكمته التي تم إلغاؤها هذا الأسبوع. فالمحاكمة وصلت إلى مرحلة استجوابه من جانب النيابة، وهي مرحلة حرجة سيسعى نتنياهو إلى التهرب منها بقدر ما يستطيع.
لقاء ترامب – نتنياهو: خلاف حول غزة وإيران
بحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن إسرائيل حصلت على “موافقة صامتة” أميركية على أنه إذا أعادت إيران بناء منشآت صنع الصواريخ البالستية، بإمكان إسرائيل أن تهاجمها.
وأشار الدبلوماسيون الذين تحدثوا لرويترز إلى أن الاختلاف يكمن في كيفية زيادة الضغط على إيران. ويقول ترامب إن أولويته هي الاعتماد على الدبلوماسية، والسعي لتحقيق هدف محدود يتمثل في ضمان عدم تطوير إيران لسلاح نووي، وأنه يرى فرصة سانحة للضغط على إيران لإبرام اتفاق، واغتنام فرصة دبلوماسية لاستعادة العلاقات مع إيران، وهي فرصة طالما أفلتت منه.
وقال مصدر مقرب من نتنياهو للوكالة، إن نتنياهو يريد استخدام المزيد من القوة، بادعاء إجبار طهران على تقديم تنازلات جوهرية بشأن الانسحاب من برنامج تخصيب اليورانيوم، وأن تفكك إيران منشآتها النووية والصاروخية بالكامل تحت رقابة صارمة، والتخلي عن تخصيب اليورانيوم على أراضيها حتى للأغراض المدنية، وأن نتنياهو يعتبر وضع إيران الحالي فرصةً إستراتيجية عابرة، تتطلب تسريعا لا ترددا، وأن الوقت المناسب لشنّ هجومٍ أشدّ هو الآن، قبل أن تستعيد إيران توازنها.
واعتبر رئيس “معهد أبحاث الأمن القومي” في جامعة تل أبيب والرئيس السابق لشعبة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية، تَمير هايمان، في تقرير نشره هذا الأسبوع، أنه بعد الحرب ضدها، الشهر الماضي، “إيران لم تعد دولة عتبة نووية”. وأضاف أن “الحرب ضد إيران حققت أهدافها، وتحسن الوضع الأمني الإسرائيلي في المدى القريب. لكن في المدى البعيد، يبدو أن إيران ستبقى مصدر التهديدات على إسرائيل. وإيران بعد الحرب هي دولة أضعف لكنها ليست أقل خطرا”.
التخوف الإسرائيلي هو أن يتحول الصراع مع إيران إلى حرب استنزاف. لكن يتوقع أن تشن إسرائيل غارات في إيران، بذرائع مختلفة بين حين وآخر، بالرغم من وقف إطلاق النار، مثلما تفعل في لبنان لكن ربما بوتيرة أقل.
فمنذ اتفاق وقف إطلاق النار في لبنان، في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي، شنت إسرائيل يوميًا غارات على لبنان، بادعاء استهداف عناصر في حزب الله أو تدمير مخازن أسلحة. وانتقل الجيش الإسرائيلي إلى التوغل برًّا في جنوبي لبنان، وأعلن أول من أمس، أن قواته توغلت في جنوب لبنان ونفذت عمليات خاصة بادعاء تدمير مخازن أسلحة ومنع إعادة تموضع حزب الله في المنطقة.