
إفرازات الحرب
لو يسمع الصم الدعاء
أحمد مختار البيت.
نجاة فضل المولى، موظفة بشركة أميفارما للأدوية.. كانت تراجع مع أخصائي أمراض باطنية في مستشفى رويال كير بالخرطوم، وأجرت فحوصات يوم الخميس على أمل أن تعرضها للطبيب يوم الأحد ١٦ أبريل! لكنها لم تتمكن من ذلك بسبب اندلاع الحرب يوم السبت15 أبريل.. ومع استمرار تدهور حالتها الصحية و حاجتها الملحة لنقل دم، ولعملية جراحية، واستحالة ذلك مع انعدام كل وسائل النجاة والحركة ونيران الحرب، توفيت بالمنزل مساء السبت الساعة العاشرة ونصف ، ولم يتمكن أهلها من تحضير الكفن لأن جميع سكان الحي أغلقوا أبوابهم عليهم نتيجة لحالة الذعر والخوف من مزعجات الليالي والطائش من القذائف والطلقات، ظلت الأسرة تبحث حتى الساعة 12 ليلا، لتعثر بعد جهد مضن، على (سترة) كفن، ووقتها كانت الحركة في شوارع المدينة بمثابة مقدمات الموت المجاني. فانتظرت الأسرة والجيران قرب جثمان الفقيدة، يتأملون الفاجعة والمحنة، وأقدار الزمان حتى الصباح. كم هو مؤلم أن يموت العاملون في شركات الأدوية من نقص الأدوية وغياب المستشفيات وكم حالة مثل هذه فارقت الحياة أو تنتظر حتفها من مرضى الفشل الكلوي أو النساء الحوامل والأطفال حديثي الولادة، والذين يتلقون جرعات من العلاج الكيميائي في المستشفيات المحددة، وأين يذهب مرضى الملاريا والباطنية والتيفوئيد والمحتاجون لنقل الدم ولصور الأشعة لإكمال التشخيص، ماذا نسمي ما يجري في بلادنا اليوم؟ ماذا نقول للعالم من حولنا إذا سألتنا شعوبه لماذا خربتم وطنكم ودمرت أنفسكم ومؤسساتكم ومواردكم؟ ماذا نقول لأطفالنا القادمين ولتلاميذ مدارسنا وطلابنا في حصص التاريخ والجغرافيا والتربية الإسلامية والتعبير، هل سيكذب المعلمون وينفون هذه المشاهد البشعة من ذاكرتهم، وهى حقائق موثقة بالصورة والصوت والزمان والمكان. وإذا سأل المشاغبون عن بيت الشاعر أحمد شوقي كيف يرد المعلمون. فلترقد روح نجاة فضل المولى بسلام إلى جوار ربها مع المغدورين من أبناء وبنات وطنها، فباطن الأرض غدا أكثر أمنا من ظاهرها، لأن الموت لم يستثن أحدا، حيث نشر اشرعته في كل مكان، وفي كل بقعة هناك خيمة للصبر تدل عليه، ولمة للحزن تحكي عنه، من ود نوباوي إلى الهلالية ومن الجنينة إلى بورتسودان، وهو مازال يحصد بشغف غريب في الأرواح والنجوم والقلوب والأحلام المؤجلة والمحظوظون هم من يوثق لهم الأحياء، أما المعاناة النفسية ومكابدة الظروف المعيشية وانقطاع الكهرباء والمياه وغياب الأمن النفسي والأمان الاجتماعي، فتلك تجارب أخرى سيرويها الذين يكتب الله لهم النجاة للأجيال القادمة.