مقالات

 الأطرش وعرفات و”الدين لله والوطن للجميع”!

 الأطرش وعرفات و”الدين لله والوطن للجميع”!

بكر أبوبكر

ذاك الشقيّ المتطرف والمنحرف المتعجرف الذي من أيام داسَ صورة القائد سلطان باشا الأطرش زعيم الثورة السورية الكبرى في جبل العرب (جبل الدروز) ضد الاحتلال الفرنسي هو أخو ذات الشقي المتطرف والمنحرف المتعجرف الذي داس صورة الزعيم الخالد ياسر عرفات في غزة حين الانقلاب الأسود عام 2007م، وما بينهما إلا سنوات لا قيمة لها في عُرف فكر التطرف والإرهاب والمغالاة الذي فُجعت به الأمة دهورًا.

لمن يحبّون عقد المقارنات فلن نقارن هذه الاعتداءات السمجة والإرهابية (الداخلية) بما تقوم به الأداة الصهيونية الثقيلة (من إرهاب دولة) يشمل تقتيل وترويع وإركاع وتعذيب لشعبنا العملاق أدانته محاكم العالم كلها، كما شعوب ومعظم أنظمة العالم حتى دول الاستخراب (الاستعمار) القديم.

لا مقارنة عادلة بين إرهاب صهيوني ممأسس عنصري-أبارتهايدي متدفق بلا نهاية برعاية الدولة وتيارها الديني العنصري الاقصائي الإحلالي-ودعم الفاجر الامريكي، وبين إرهاب ديني (إسلاموي، أو مسيحوي، أو بوذي أو هندوسي، أو قومي…) اشتعل في غمرة أحداث لا يمكن تبريرها تحت أي ظرف! لكن يبقى كله إرهاب مدان ويجب مقاومته، والثاني أولى في الدول المستقلة. ويصبح الاختلاف بالشدة فقط، والشدة دومًا في صالح الإسرائيلي المعتدي، فلننحي هذا الأمر جانبًا.

ياسر عرفات كان شخصية جامعة فلم يسأل أحدًا إلا عن مقدار اقترابه من فلسطين ودعمه لها، أكان فلسطينيًا أم عربيًا أم مناضلًا أمميًا، لذلك احتضن الجميع وأحب الجميع، وقبّل جبين القادة من مجايليه، أو الكبار ممن سبقوه (الحاج أمين الحسيني، أحمد الشقيري، سلطان الأطرش، جمال عبدالناصر، محمود شيت الخطاب، فوزي القاوقجي، ميشيل عفلق، مشهور حديثة الجازي، هواري بومدين، بورقيبة،…الخ)، وقبّل أيدي المناضلين والشعب ورؤوس النساء، فلم يكن له من تمييز بين آية الله هاني فحص الذي انتمى لحركة فتح، ولا المناضل الشيوعي اللبناني محسن إبراهيم الذي كان يحضر كافة اجتماعات القيادة الفلسطينية والحركة حتى اعتبر أحد أعضاء قيادة “فتح” السريين، وأمثالهم الكثير حتى أقر بالنظام الداخلي (الدستور) للحركة أن الانتماء العربي للحركة كما الفلسطيني لا فرق. فوجدنا بيننا كل الجنسيات والأديان وبالمئات، ومن المشاهير كان المفكرالمصري د.محمد حمزة (د.سمير غطاس) القبطي المصري، وزميله الشيوعي القبطي المصري د.محجوب عمر المناضل اللطيف، عضوًا في الحركة، كما وجدنا اليهودي “إيلان هاليفي” ممثلًا للحركة بالاشتراكية الدولية، واليوم زميلنا “د.أوري ديفس” اليهودي البريطاني عضوًا في المجلس الثوري لحركة فتح، وكان بيننا من كل جنسيات الأمة الكثير من المناضلين ومازال.

ارتبطت المقاومة الفلسطينية بالقادة العرب والأجانب (رؤساء دول أو أحزاب أو جماعات…) بعلاقات متينة عنوانها الحرية والثورة والحق والعدل والسلام فكان ياسر عرفات لا يُرى في لبنان الا بصحبة القائد كمال جنبلاط (ولاحقًا ابنه وليد جنبلاط “أبوتيمور”) الذي ترأس الحركة الوطنية اللبنانية، ومع قادة الحركة الوطنية اللبنانية الآخرين، وكان ياسر عرفات عندما يُسأل عن كمال جنبلاط يقول: “أنا لا أسأل المعلم كمال جنبلاط ما رأيك، بل أساله ماذا نفعل؟”[1] في تبيان لحجم الثقة المتبادلة والرفاقية.

بل وكان بيير الجميل رئيس حزب الكتائب وعائلته التي رغم الخلاف الكبير معها في زمن فات إلا أن العلاقة الشخصية معها، وخاصة مع الرئيس أمين الجميّل (وبين أمين الجميل وصلاح خلف “أبوإياد”) ظلت متواصلة حتى في أدق المراحل وفي أتون الحرب سيئة الصيت في لبنان.

دعنا نكثّف الكلام هنا على الأخوة العرب الأقحاح أي الدروز بعيدًا عن التنظير الماضوي الطائفي الاسلاموي البغيض الذي ما أن يخفت حتى يشتعل ثانية ضمن آلة إعلامية تحريضية لا تهدأ لسان حالها يقول: أنظروا ماذا فعلت القومية الفلانية؟ أو الطائفة العلانية؟ في العصر الفلاني وهكذا وانظروا الى عقائدهم….الخ من طرق قياس لا قيمة لها في معاملات الناس وحياتهم اليومية، وفي نهج المناضل والمقاوم الذي هدفه الرئيس الحرية والاستقلال والعدالة والدولة المدنية.

من حق أي إنسان أن يختلف مع الآخر ولكلّ عقيدته وهذا اختياره، وليس هذا الرابط الحيوي بين الناس أوبين أجزاء الأمة، بل حضاريتها وانسانيتها ورحابتها ومرونتها، وقيم التعامل بينها التي تمثل (95%) من حياتها، فيما تلجأ التيارات الفكرية المغلقة والمتطرفة والإرهابية لتلك ال5% (أو أقل) ذات الخلاف العقدي لتجعل منها محرّك الحقد الأبدي، وبالشحن والتحريض والتأليب الدائم  تعلو الفتنة والاقتتال والتنابذ والافتراق بدعم ومساندة لحوحة لا تهدأ من الاعلام الصهيوني الذي اخترق الاعلام العربي والاسلامي حتى العظم، اليوم.

الصورة كانت واضحة بالأيادي التي عبثت بالمنطقة العربية وعقول بعض رموزها فأنتجت تيارات إسلاموية تكره المسلمين أكثر من الغرب الاستخرابي (الاستعماري)، وتشكلت بعض أحزاب ظاهرها إسلامي مخادع للعامة، وباطنها كراهية المجتمع والعداء له إلا مَن كان معهم! وليس ببعيد عن الجميع أسباب قيامة “داعش” على سبيل المثال في العراق وسوريا، ولمن لم يقرأ أن يعيد ضبط عقله والاطلاع على الكثير الذي يرجعه لمجاهل التاريخ حين نشأ التطرف في بيئة جهل وبساطة وانجراف وشعوبية طاغية، وبانحراف عقلي وقيمي مرتبط بكل الأديان ومنها لدى المسلمين منذ صعود الخوارج، وصولًا للعصر الحديث حين كان لبعض الأحزاب الاسلاموية دورًا ايجابيًا باتجاه (الأحزاب الاسلاموية شيء، والمفكرين المسلمين أو الاسلاميين شيء آخر مختلف ومحترم ومقدر) ، ودورًا سلبيًا أكبر بآخر أعاد انتاج شياطين التطرف من قعر التاريخ الأسود.

ما كان القعر التاريخي الأسود فقط هو ما أنتج مروحة  المغالاة والتطرف والإرهاب التي لا تبّرد صيفًا أبدًا، وإنما عوامل الدسّ والتربية والزرع الذي دأبت عليه الإمبريالة الأمريكية (وسبقتها البريطانية والفرنسية الاستعمارية) وبالأصابع الصهيونية النشِطة بالمجال مما حصل ويحصل اليوم من فواجع وثقوب في جسد الأمة شرقًا وغربًا، ويا للأسف بدعم قيادات عربية محليّة واعية (وفخورة!؟) لدورها المتواطيء (أنظروا للقاء الوزير الفلاني حينما تحدث علنًا عن دوره ودولته بالتواطؤ والاستخذاء[2] للأمريكي من بوابة الصهيوني) حفاظًا على عرشها، أو قيادات أخرى غبيّة غير واعية ومغيبة، أو منقادة ومنبهرة مفتتنة بالغرب! أو فقدت ثبات ركبها خوفًا من سوط الإسرائيلي وتهديد الأمريكي.

الى جانب العدوان بالصواريخ والقنابل وشطر الرؤوس تنشط الدعاية والإذاعة الإسرائيلية التهييجية والتضليلية، وكافة القيادات ومنابرالاعلام الإسرائيلي بالتحريض على كل مكونات الشعب الفلسطيني العملاق سواء التنظيمات كلها (لا فتحستان ولا حماسستان…-نتنياهو) أو ضد السلطة الوطنية الفلسطينية، وضد الدولة الفلسطينية (لن تكون هناك دولة فلسطينية قط..-من أقوال نتنياهو والمتطرفين زملائه) بكل مكوناتها أو ضد فكرة العربية، وأمة العرب، وبرفض اللغة العربية، أو ضد حق تقريرالمصيرللشعب العربي الفلسطيني فيما سمي “قانون القومية” (الاسرائيلي) العنصري، ومما نراه من الامعان بالقتل والفتك والمجازر والتعذيب والذبح غير المسبوق تاريخيًا في قطاع غزة وبالضفة والجوار. ومؤخرَا ضد الشعب السوري وكل مكوناته بشكل سافر من تأليب وقح من طرف ضد آخر بما لا يدع مجالًا للشك بالأصابع الصهيونية الواعية لما تفعل لتفتيت النسيج والدولة السورية كما تفعل في فلسطين ولبنان وغيرها.

ما نؤكد عليه أن السبق الصهيوني المُمأسَس بالإرهاب والقتل والتطرف والعنصرية، والفتنة والتأليب لا نظير له نعم، ولكن ذلك لا يعفي التيارات المتطرفة الإرهابية الأخرى النشِطة بالمجال من ضرورة كشفها والتصدي لها وردعها، ومنها تلك التي مازالت تنخر الجسد السوري الغض.

نعود لبداية المقال فإن الذي داس على صورة الخالد فينا ياسر عرفات في الانقلاب على غزة عام 2007م، هو نفسه أو أخوه بالإرهاب والتطرف الذي داس من أيام (شهر 7 للعام 2025م) على صورة قائد الثورة السورية الكبرى سلطان باشا الأطرش[3]، وهو الذي عارض السعي الفرنسي بإنشاء الدولة الدرزية عام 1921، معلنًا الثورة. وللعلم فلقد أجبرت الثورة (وبالتقاطع مع ثورات سورية أخرى) فرنسا على إعادة توحيد سورية بعد أن قسمتها إلى أربع دويلات: دمشق، وحلب، وجبل العلويين، وجبل الدروز.

قال ياسر عرفات “أبوعمار” في غزة إبان استقباله لوفد من دروز فلسطين العرب الأقحاح: “إخواننا الأعزاء أهلا وسهلًا بحضراتكم جميعا فرًدا فردا، لا أبالغ في قولي أننا تعلمنا النضال والتضحية والجرأة والملاحقة والمثابرة هناك في السويداء معقل المرحوم عطوفة سلطان باشا الأطرش قائد الثورة السورية الكبرى في عرينه هناك، والتي أدت الى استقلال سوريا فيما بعد، وكذلك من المعلم الكبير المرحوم كمال بك جنبلاط ومن ثم نجله أبي تيمور وليد بك جنبلاط، وتوجه مشيرًا الى الوفد قائلا: وأنتم يا بني معروف سند لنا في “إسرائيل””.[4] 

وفي زيارة للدكتور صائب عريقات (عضو مركزية فتح) رحمه الله لمقام سيدنا الخضر في كفر ياسيف بالداخل الفلسطيني (26/2/2016م) وكما رصد أبوسنان د.نجيب صعب “سلّم عريقات وبقرار من الرئيس محمود عباس (أبومازن) الشيخ موفق طريف الرئيس الروحي للطائفة الدرزية وبواسطته الى عموم  الموحدين في هذه الديار بحضور جمهور غفير من مختلف الطوائف، نسخة من وصية المغفور له سلطان الأطرش التي تسلمها من قبل شيخ عقل الدروز في سوريا فضيلة الشيخ محمود الحناوي” مضيفًا أن الرسالة حملت في طياتها الوصية القائلة من الأطرش أن “الدين لله، والوطن للجميع”.

يذكر المفكر والباحث الكبير صقر أبوفخر في مطالعته لكتاب ريم الأطرش المعنون: “المذكرات الحقيقية لسلطان باشا الأطرش القائد العام للثورة السورية الكبرى: وثائق من أوراقه 1910 ـ 1989“[5] أنه “كان لفلسطين نصيب كبير في هذه الوثائق التي تضمنت مراسلات لسلطان الأطرش مع المفتي محمد أمين الحسيني، وإميل الغوري، وتوفيق صالح الحسيني، وكيل الحزب العربي الفلسطيني، ثم لاحقًا مع مطران القدس هيلاريون كبوجي (الحلبي الأصول)، ورسالة من سلطان الأطرش إلى ياسر عرفات، والرئيس سليمان فرنجية، مؤرخة في 9 مايو/ أيار 1973، يحثهما فيها على وقف القتال بين الفدائيين والجيش اللبناني”. ويشار للعلاقات الجميلة بين الأطرش ووالد القياديان الكبيران في حركة فتح خالد سعيد الحسن وهاني الحسن.

لا يحتاج الثوار الدروز (الموحدون) الى من يقدمهم أو يشهد لهم أو يكفلهم، فهم الكبار. ولا يحتاج من خرجوا عن الخط بالطائفة أو غيرها من الطوائف والقوميات والشعوب الى دليل فالواقع شاهد والذاكرة حيّة والقلم يسجّل والتاريخ صعودًا وهبوطًا يرصد.

إن الأصل هنا ضرورة الفخر والاعتزاز بالثوار والمناضلين والمجاهدين كافة، فما بالك بقياداتهم الميدانية الموقرة. ومن الفخر يأتي الاعتزاز بالشعوب كلها الناهدة نحو الحرية ورد الظلم وتحقيق العدل، والتمسك بحضارتنا المتميزة والرحبة، وثقافتنا الجامعة وقيمنا الثابتة التي تقبل الآخر المختلف، وتعترف به جزء لا يتجزأ من نسيج المجتمع والدولة والأمة.

والأصل هنا أيضًا أن من داس صور الرموز يجب أن يواجه وبيئته العفنة بقوة، ومجابهة كافة التعديات والخطايا بقوة الوحدة الوطنية.

والأصل هنا هو مدى صلاحية وديمومة وصيّة سلطان باشا الأطرش الحكيمة التي بها تقوم الدول الحديثة عامة، ومنها الدولة السورية الجديدة، ويمكن للجسد العربي الموحد وفق الوصية الكريمة أن شاء أن ينهض ويستعيد عافيته. فالغازي واضح والحق بائن والجسد بكل أعضائه يتكامل لكنه لا ينبض بلا قلب، والقلب فلسطين.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب