مقالات

الإبادة الإسرائيلية والقضاء الأمريكي: محكّ التعديل الأول

الإبادة الإسرائيلية والقضاء الأمريكي: محكّ التعديل الأول

صبحي حديدي

كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

لعلّ من الصعب أن يكون المرء متأكداً إزاء احتمال اصطفاف المحكمة العليا في الولايات المتحدة خلف الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مجدداً، بالنظر أساساً إلى تركيبتها الراهنة المحافظة التي حرص الرئيس الأمريكي على تعزيزها خلال ولايته الرئاسية السابقة؛ واعتماداً، كذلك، على فتوى المحكمة العليا بالحدّ من صلاحيات المحاكم الفدرالية في إجراءات رئاسية تخصّ الهجرة والترحيل وحيازة الجنسية.
التحدي الأحدث عهداً جاء مؤخراً من نانسي توريسن، القاضية الفدرالية في ولاية ماين، التي حكمت لصالح مواطنَين أمريكيين، ماثيو سميث وعقيلة رادكريشنان، ناشطين في ميادين حقوق الإنسان، تقدّما بشكوى ضدّ الأمر التنفيذي رقم 14203 الذي أصدره الرئيس الأمريكي وقضى بفرض عقوبات على كلّ متعاون مع المحكمة الجنائية الدولية، مما أجبرهما على وقف العمل مع الجنائية. واعتبرت توريسن أن الأمر التنفيذي ينتهك الدستور الأمريكي، ويحدّ كثيراً من حرية التعبير كما ينصّ عليها التعديل الدستوري الأوّل، وأمرت بوقف تطبيقه.
وإذا كان قرار القاضية الفدرالية ينطبق على المواطنين في الولايات المتحدة، فإنّ صياغة حيثياته يمكن أن تشكل سابقة قانونية تتيح لمنظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني الاعتماد عليه في مقاضاة عقوبات أخرى فرضتها إدارات أمريكية سابقة وحالية على أمثال كريم خان المدعي العام في المحكمة الجنائية الدولية، وفرنشيسكا ألبانيزي المقررة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ففي نصّ القرار تعلن القاضية توريسن أنها نظرت في أربعة اعتبارات: احتمال صدور حكم لصالح الدعوى، ومقدار الأضرار الناجمة عن عدم الحكم لهما، وما إذا كان الامتناع عن الحكم فيها سيثقل كاهل المشتكيَين، وتأثير الدعوى إجمالاً على المصلحة العامة إنْ وُجدت. كما يلوح أنها تحسبت لاحتمالات لجوء إدارة ترامب إلى تسخير المحكمة العليا لتعطيل القرار، فأشارت إلى أنّ هذه المحكمة ذاتها هي التي سبق أن أوضحت الحدود القصوى لتدخّل الحكومة في الحدّ من حرية التعبير المصانة قانونياً.
كذلك ذكّرت توريسن بأنّ جملة أسباب مماثلة دفعت محكمة فدرالية، في سنة 2021، إلى ردّ أمر تنفيذي أصدرته إدارة ترامب الأولى وتضمن إدانة الجنائية الدولية بسبب تحقيقها حول أشخاص أمريكيين في أفغانستان، فمنحت أصحاب الدعوى الحقّ في الاتكاء على التعديل الدستوري الأول لاستخلاص أثر العقوبات على الحدّ من حرية التعبير. وحول التوازن بين قبول الشكوى أو ردّها وبين المصلحة العامة، استذكرت القاضية الفدرالية أن الحكومة شددت دائماً على أنّ المواطن الأمريكي لا ينتهك قوانين العقوبات إذا انخرط في «أنشطة خاضعة لحماية دستورية في الولايات المتحدة».
والحال أنّ الاستشراس الأمريكي الحكومي ضدّ الجنائية الدولية أقرب إلى معركة ضدّ طواحين دونكيشوتية في نهاية المطاف، بالنظر إلى حال القصور والعطالة التي تعيشها المحكمة ذاتها، في ضوء ثلاث حقائق على الأقلّ، ضمن أخرى كثيرة: أنّ ثلاث دول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، أمريكا وروسيا والصين، لا تعترف بالمحكمة أصلاً؛ وأنّ 70 من أصل 193 دولة عضو في الأمم المتحدة، ليست منتسبة إلى المحكمة؛ وأنّ الكيل بمكيالين هو ديدن القوى العظمى في التعامل مع قرارات الجنائية (فارق تعامل واشنطن مع مذكرة اعتقال فلاديمير بوتين، بالمقارنة مع مذكرة مماثلة بحقّ بنيامين نتنياهو).
ولكن لأنّ معاقبة الجنائية الدولية، من جانب ترامب أو إدارات سابقة ديمقراطية وجمهورية على حدّ سواء، نهضت أساساً على نصرة دولة الاحتلال الإسرائيلي في المقام الأول، ولم تكن التغطية على جرائم الحرب الأمريكية ذاتها سوى المقام الثاني؛ فإنّ الحقوق الفلسطينية عموماً، وحرب الإبادة الإسرائيلية في قطاع غزة خصوصاً، هي في قلب أحكام قضائية أمريكية صدرت ولعلها سوف تصدر هنا وهناك، على سبيل نقض هذا الطراز من أوامر البيت الأبيض التنفيذية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى

Thumbnails managed by ThumbPress

جميع الآراء المنشورة تعبر عن رأي كتابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي صحيفة منتدى القوميين العرب